علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

ما يُولدُ في الظلمات يفاجئه النور فيعريه!

ما هذا الذي يحدث في مجتمعنا: شوارعه، بيوته، إعلامه، فضاء تواصله الافتراضي، حتى ما نفترض أنه أرقى مؤسساته فكرًا ونُبلًا: جامعاته؟! ما هذه الكراهية كلها؟ وما هذا الكم من الفوضى والتخلف والتسلق والهمجية والبلطجة كله؟ جرائم ومنازعات بشعة في وضح النهار، دسائس ومكائد واتهامات وظنون ما أنزل الله بها من سُلطان، أحقاد وصراعات وتحقيقات وتحليلات بخصوص توافه الأمور، فتيات ونساء كاسيات عاريات يختلطن بأخريات محصنات تعج بهن الطرقات، أعداد غفيرة من الشباب والأطفال تمكن منهم داء السُعار الجنسي فراحوا يهيمون على وجوههم في الشوارع جماعات، يتفوهون بأحط الألفاظ، ويمارسون التحرش اللفظي والجسدي علنًا دون رادع من ضمير أو دين أو حكومة، أساتذة وكُتّاب ونُخبة استعصت عليهم فضائل الفكر فراحوا ينهشون لحوم بعضهم، سيطرة مطلقة لممارسي البلطجة وسائقي المركبات المختلفة دون التزام باتجاهات أو قواعد مرورية، قذارة يتعايش معها الناس في سيمترية غريبة تعكس أسلوبًا غثًا في الحياة، إلخ. ما هذا التشويه والمسخ كله الذي أصاب الوعي الجمعي في مقتل؟ أين الخلل؟ وكيف ترعرع في وادينا الطيب كل هذا القدر من السفلة والأوغاد (على حد تعبير صلاح عبد الصبور)؟

في معية السقوط الحضاري المتسارع منذ عقود ثقيلة، كُنا وما زلنا نتوقع أي شيء وكل شيء، لكن الواقع فاق التوقعات في أسوأ حالات تشاؤمها، كأن نُطف الجهل والتخلف والفساد قد اكتملت وتكاثرت في رحم الأمة، فبات الوطن كأنه رحمٌ حبلى بمسوخ عقلية تتأهب للظهور ذات غفلة بأفكارها المشوهة! وتحت إلحاح الفساد، وصخب المتعملقين من الأقزام، رحنا نقتل الوطن المريض بدماءٍ باردة بدلًا من السعي لإنقاذه، أو حتى تخفيف آلامه، فذلك وفقًا لمنطقنا الزائف أسهل وأسرع! الحق أقول لكم: «ما يُولدُ في الظلمات يفاجئه النور فيعريه»، وكم من مولود في الظلام!

إنها التفاهة يا صديقي (على حد تعبير ميلان كونديرا)، هي جوهـر الوجود الآن، إنها معنا على الدوام، وفى كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب! لذا، كن حذرًا من سيل التفاهة المتدفق والمتواصل من حولك على مدار الساعة، حيث الأنيق التافه والفارغ المنتفخ وقبيح الفكر المتضخم والمتملق الدنيء وسيئ الأدب السادر في غيه والطفيلي المتبهرج بالأكاذيب والأبله المطمئن بجهله. إنه الواقع الذي نعيشه، الذي يُمثل مرحلة غير مسبوقة من مراحل تطور المجتمع: مرحلة التفاهة والابتذال!

مهما كانت قوة مخيلتك، لن تستطيع رسم صورة –ولو تقريبية– تُوضح ضخامة حجم الفساد في قطاعات المجتمع ومؤسساته كافة، صحيح أن ثمة جهات رقابية تكشف من حين إلى آخر عن واقعة فساد هنا أو هناك، لكن الأمر أشبه ما يكون بأخطبوط ضخم، تمتد أذرعه القوية في كل اتجاه، وكلما تمكنت من قطع ذراع له نبتت مكانه عدة أذرع، أقوى وأشد بأسًا! لقد تجاوزت قوة الفساد مرحلة تشويه الوعي واغتيال القيم وسرقة المعاني والدلالات من الكلمات الدالة عليه، إلى مرحلة استحالة الحياة دونه، مرحلة المستنقع الذي يتزاحم الجميع على الولوج والغوص فيه طلبًا للجيف القابعة في قاعه، مرحلة استهجان تعبير «المومس الفاضلة»، والاحتفاء بمن «أومس» قبحًا وفسادًا تحت راية الفضيلة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حتى في العالم الافتراضي، وباستثناء قليل من المنشورات الجادة والهادفة، يبدو التجول في أسواق التواصل الاجتماعي على اختلاف أشكالها صادمًا ومثيرًا للشفقة، حيث البضائع المُزجاة، ساحات الكذب والنفاق والتملق، نواصي الباحثين عن أدوارٍ افتراضية تتجاوز قاماتهم وتفوق إمكاناتهم، سرادقات الإنجازات الموسمية، أركان المناسبات اليومية، مثل رُكن التهنئة ورُكن العزاء ورُكن التعبد والدعاء، إلخ.

إنها ثقافة الكلينكس (على حد تعبير الكاتب والروائي الساخر «ميشيل حنا» في كتابه «عالم كلينيكس»)، أعني ثقافة الاستخدام المُكثف والسريع للمناديل الورقية، تلك التي تتجلى عبقريتها في كونها غير قابلة لإعادة الاستخدام، تستخدمها مرة واحدة ثم تتخلص منها! يمكنك أن تُمسك بها كل ما هو غير نظيف ثم تتخلص منها. صحيح أن هذه الثقافة قد غشيت حياتنا الواقعية منذ زمن بعيد لتشمل بعض أنواع الملابس والمناشف وأدوات المطبخ والأدوات الطبية والبامبرز والأكياس البلاستيكية، وغيرها مما يكون مصيره في النهاية صناديق القمامة، لكنها في أسواق التواصل الاجتماعي تنخر في إنسانيتنا وتُشوه ضمائرنا وتعبث بوعينا: صداقات تبدأ وتنتهي سريعًا بضغطة زر، مصالح وصفقات وتلميعات فردية وجمعية تُراهن على ذاكرة الزبائن، إنجازات وهمية وأيادٍ قذرة تُصفق وجهلاءٍ يتجملون، لايكات زرقاء وقلوب حمراء ووجوه ضاحكة وباكية صفراء، وذوات تنتفخ بها، وأكاذيب تُسَوّق، وسيلٌ متدفق من التفاهات، وجمهور مُغيب مغلوب على أمره! تجول قليلًا وتأمل، وسيدهشك الكم الهائل من الكلينكس المُلقى على قارعة العقل!

ما أعجب أمر هذا الوطن، يُقلص أبعاد الإنسان إلى بُعدٍ واحدٍ فقط هو بُعد الصراع على الفتات! ثم يسوده جهلٌ متعدد الأبعاد، نفاقٌ متعدد الأبعاد، وصولية متعددة الأبعاد، سرقة متعددة الأبعاد، عبثية متعددة الأبعاد، وما بين كل بُعدٍ وآخر شبحٌ إنساني مشوَّه الأبعاد، وسقوط حضاري متوالد الأبعاد، وفشلٌ مُقدس يليق بنا ونليق به! إنه الفشل الذي يستمد قدسيته من نجاحه، فإذا لم تستطع النجاح في مجابهة الفشل وتجاوزه، ولن تستطيع، فعليك النجاح في الفشل ذاته، والتشبث به، وقتئذ تُفتح لك الأبواب، وتمتد لك الأيدي، وتعلو الأصوات: مرحبًا بك في قوافل الفشل، إذ يكف الفشل عن كونه خيبة، ليغدو نبوغًا في محميته العربية المتسعة!

الحق أنني كلما تأملت الأحداث المتلاحقة التي يمر بها عالمنا العربي، أو تمر هي به، باحثًا عن تفسير لها، أو عن تنبؤ منطقي بمجراها ومدلولها، وجدت نفسي غارقًا في لُجج الغموض والحيرة، بل إن الغموض ليزداد من يوم إلى آخر، ومن ساعة إلى أخرى، كأن الصورة تأبى إلا أن تعاند العقل بكثرة محتوياتها اللا مرئية، وبكثرة المحللين لها في زمن يعُج بالخبراء! ولأننا في العادة، وبشهادة التاريخ، تابعون ولسنا متبوعين، ولأن بلادنا العربية جزءٌ من خريطة سياسية يعبث بها من حين إلى آخر ذوو المصالح في الداخل والخارج، ولأننا ألفنا الضجيج والتهليل والتأثر والتسليم بنهايات الأمور، وكرهنا الفكر والعلم والفعل والتأثير، ذلك كله زادني قناعة بأن ما نتذوقه من طعام غث إنما يجري إعداده بعناية في مطبخ فوقي، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب! هو طعام يبدو في ظاهره شهيًا جاذبًا بشعارات صانعيه، لكنك لا تعرف مكوناته، بل سرعان ما يصيبك بعُسر الهضم جراء تناوله وجراء كثرة الأيدي الممتدة إليه، نأكله اضطرارًا، فلا بديل لنا غيره، لا لشيء إلا لأننا لا نملك حق صنعه أو حتى الاعتراض عليه! ولنا في النهاية أن نجلس في مقاعد المتفرجين، نُحلل ونتوقع ونتفاءل ونتشاءم كما نشاء، نضجر ونتثاءب كما نشاء، نعيش أو نموت كما نشاء، ففي النهاية سنغادر مقاعدنا وقد فُرضت علينا النتيجة، هذا ما في الأمر كله، فلا تحزن، لأن الفكر في زمن اللا فكر وباء، والوعي في زمن اللا وعي بلاء، والقبول والاعتراض لديهم سواء!

مقالات ذات صلة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الانحراف السلوكي عن القيم الأخلاقية

الفرق بين البلطجة والدفاع عن النفس

ازدواجية الفعل بين الواقعي والافتراضي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة