مقالات

يوماً ما

 

تخيلتك وأنت تركض نحوي صبياً بريئاً، مشرقاً، مبتهجاً، لا بك كَدَر ولا شَقَاء، وأمك آتية خلفك مبتسمةً بإطلالة آنست وحشة نفسي وأضفت عليها وضاءة وبهاء، فهى رفيقة العمر وبلسم على هذه الحياة المقرونة بالفناء.

كنا رفيقتين من قلب القنوط نحاول أن نصنع مراداً جديداً، أملاً ينبض بالحياة وسراجاً للمسير لامعاً ومضيئاً، نمر كالجميع بلحظات ضعف وإعراض مرير، يتضاءل فيها العزم وتهن الهمة وهناً عظيماً.

كانت أمك حينها تتداركني تداركاً ينتشلني من ركود الظلام فيحل بي سلام عميق، كم من ليال نامت فيها عيني ولم ينم قلبي امتناناً بدنوها مني دنواً كريماً، ثم تلامسها تلك الأيام القاسية فأرفق بحالها وتترقرق دمعتي فكيف من كانت بالأمس سداً باتت يائسة تنظر لي بدموع تنهمر على خديها سريعاً، لا يرشدني إلا صوتك في مخيلتي وصياحك مستغيثاً.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أرجوكِ أسعفي أمي وكوني لها سنداً قوياً ومتكأً متيناً، فإني ما زلت في نسج خيالك ولكن قدومي تالياً وقريباً، أرجوكِ لا تتركيها تخوض حياتها وحيدةً في الضباب طويلاً، تذكريني كلما اشتد عليكِ بأسها وغدا الوصول بعيداً مستحيلاً، تذكري آثار اتزان نفسها على نفسي صغيراً سأكون أو كبيراً، سيغدو كل أثر طيب لكِ فيه يوم التلاق نصيباً، فالله مطّلع، خلق الدنيا ليختبر أنصنع شيئاً أم نملؤها بكاءاً ونحيباً.

يا صاحبة أمي قد مرت صاحبتك بأيام كانت تصف كل واحد منها بيوم عصيب، خلقت داخلها صراعات تنتقص من ثباتها انتقاصاً شديداً، جعلت قدراتها على الحسم أمراً شاقاً وعسيراً، فكم من أسياج قهر حاولت أن تتحرر منها ولم تجد لمحاولاتها سبيلاً، بعض العراقيل كانت من أناس حولها والبعض الآخر من سجون أفكار موروثة لم يصل إليها إصلاحاً وتجديدا، فجعلت زهوراً داخلها ذابلة كانت تنتظر عناية وسقاية تحييها، وأشواكاً من المفترض أن تُنتزع لكي تهدأ ولم يتحين موعد انتزاعها فأصابت روحها غماً وتقطيبا.

إليك يا رفيقة أمي السلام ودعوة مهداة ودفعاً مديداً، فآلام سعيكِ زائلة ولن يبقى إلا عملك شهيداً.

نم يا صغيري وكن مطمئناً فى عالمك فإن عرفان أمك مردود، سأذكرها بحقيقة هذه الحياة والهدف المنشود، وأننا وجِدنا لا لنصارع وحدنا بل هناك خالقنا الودود، حكيماً رحيماً عليماً بحالنا أفاض علينا بنعمة الوجود، لنتعرف على عظمته ونسعد لا لنهلك فى الشقاء اللامحدود، ولكن السعادة لتتحقق لا بد من بذل المجهود، فهذا قانون يُميز الصادق من الكسول النمرود، أيسعى المرء منا أم يُفضل القنوط أو القعود، أيهتدي بنبراس عقله أم يقصيه فيغدو هائماً رغم كنزه المفقود.

سأعتني بأمك لتصبح أهلاً لاستقبالك الموعود، فمولدك نقطة فى نهاية صفحة حبها للذات لتتعلم أن الأوضاع استجدت لتقود، تقود فطرتك إلى نضجها أو إلى الانحدار والطريق المسدود، فإن خُطاها ممثلة فيك وخطاك مصداقاً لخطاها المشهود.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالمرء منا ليس مكبلاًّ كلياً بالقيود، بل له في شئون حياته اختيار وإرادة ليصنع المقصود، ورغم ما يُفرض عليه فله في التصرف تجاهه مجال ممدود.

نم يا صغيري أينما كنت ولا تقلق، فأمك محفوظة عندي في مقام محمود.

 

 

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة