مقالاتفن وأدب - مقالات

يوسف

لم يكن هذا الولد عاديا، منذ طفولته وهو ينظر إلى الأشياء نظرة مختلفة تماما، كان كثير التساؤل: “لماذا أستيقظ من النوم؟ لماذا أذهب إلى المدرسة؟ لماذا يقيمون طابور الصباح والإذاعة المدرسية؟ لماذا يقسو أبي على أمي وينهرها دائما؟ لماذا لم أعد أرى جدتي في حجرتها بعد هذا اليوم المليء بالصراخ؟ قالوا لي إنها ماتت، ما معنى “ماتت”؟

وهل أنا سأموت يوما ما؟ لا، أنا لن أموت، يقولون بأن هناك ملَكا يأتي يقبض الأرواح، حسنا إذا رأيته آتيا من بعيد سوف أغلق باب حجرتي بالترباس، أنا متأكد من أن هذه الطريقة ستمنعه من الدخول، وسيمل من الانتظار فينصرف، وإذا غافلني ودخل حجرتي خلسة، فسوف أتدثر ببطانيتي جيدا فلن يستطيع أن يصل إليَّ أبدا، أنا سأنتصر على هذا الملَك وسألقنه درسا لن ينساه، هل نفوس الناس لعبة بين يديه؟!”.

استمرار نبوغه

كان هذا الولد -كثير الأسئلة- عنيدا، فلا يمكن أن يقبل شيئا إلا إذا اقتنع به. كَبُرَ وترعرع وتنقل في مراحل التعليم حتى وصل إلى مرحلة الجامعة، وهناك بدأت الحياة تعطيه بعض معانيها، دخل الكلية التي اختارها واقتنع بها، والتحق بالقسم الذي ارتضاه ومالت إليه نفسه، فظهر تفوقه على أقرانه، ولمع نجمه في سماء جامعته حتى عرفه كبار المسئولين فيها، حصل على الجوائز وشهادات التقدير والمراكز المتقدمة،

حتى صار ما يتمناه أقرانه عاديا وسهلا بالنسبة له، ورغم كل هذا التفوق ظلت أسئلة الطفولة عالقة في ذهنه: “لماذا جئت إلى هذه الحياة؟ لماذا لا أشعر بلذتها؟ ما معنى حياتي وما قيمتها؟ ما الحب؟ ما معنى الإنسانية؟” ظلت هذه الأسئلة تدور في رأسه، تخبو فترة وتشتعل أخرى، وهو يحاول في كل مرة أن يُسكت هذا الضجيج الذي يشتت تفكيره ويؤرق مضجعه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان الجميع يراه قويا، ذكيا، صعب المراس، سباقا ولا يمكن أن يضارعه أحد. ولكنه في الحقيقة كان حزينا، غريبا، وحيدا، لا يجد من يؤنس روحه ولا من يشاركه همومه، وظل على هذه الحال، ما بين ظاهر قوي يراه الناس، وبين نفس حزينة متعبة تائهة، ظل على تلك الحال البائسة وظن أن الأمور لن تتغير أبدا، وفجأة حدث شيء جعله يشعر بمعنى الحياة، لقد دق قلبه لأول مرة في حياته، وشعر بهذا الإحساس العجيب الساحر.

تحطم  قلبه

كانت زميلته في مشروع التخرج، جميلة ورقيقة وعاقلة ورزينة ومتفوقة أيضا. كاد أن يطير من الفرحة، لقد وجد أخيرا معنى لحياته، الحب هو الذي يعطي للحياة معنى، شعر أخيرا بكينونته ووجوده، لو لم يكن في هذه الحياة سوى هذا الإحساس الساحر لكفى.

كان الفصل الأخير من الدراسة، فقرر أن يعترف لها بحبه وأنه سيذهب إلى أبيها لخطبتها، حدد الوقت المناسب وكان بعد امتحان آخر مادة، طلب أن يحدثها على انفراد فوافقت، أخبرها بأنه معجب بها منذ فترة وأنه ينوي التقدم لخطبتها، فانتاب الفتاة حياء شديد واستأذنت فأذن لها، ولكنه أعلمها بأنه يريد رأيها. عاد إلى مسكنه في هذا اليوم وقلبه يخفق بشدة، هل هي تحبه مثلما يحبها؟ هل ستأذن له كي يكلم والدها؟ وجاء الرد في رسالة قصيرة “أخي يوسف، أنت أخي ولا شيء آخر”.

يوسف الحزين ازداد حزنه، وتحطمت آماله، رسالة من بضع كلمات كانت كفيلة بتحطيمه كليا، رسالة واحدة جعلته لا يرغب في أن يكمل حياته، لقد وجد نفسه حينما دق قلبه، والآن اكتشف أن ما عاشه كان حبا من طرف واحد. هو يعلم أنه لا يستطيع أن يجبر أحدا على حبه، ولكن أمله كان كبيرا وأمنيته كانت تتملك نفسه.

قرار الانتحار

عاش يوسف أصعب أيام في حياته؛ كان يموت في اليوم ألف مرة، لم يعد يشعر بطعم أي شيء في الحياة، ضعف جسده وأصابه الهزال، وبدأت الأسقام تتسلل إليه، بحث كثيرا عن عمل ولكن للأسف كانوا يشترطون خبرة، كانت حالته تسوء يوما بعد يوم، وفي النهاية قرر أن يتخلص من حياته، قال في عقله: “حياتي لا معنى لها، ها أنا قد تخرجت بتقدير عال ولا أجد عملا في مجالي، وحبيبتي كانت تعتبرني أخا لها، وأسئلتي لم يجب أحد عليها، والموت الذي كنت أتحداه وأنا صغير ها أنا ذاهب إليه بنفسي”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أخذ القرار وأعد العدة وكتب رسالة إلى أمه يقول لها فيها أنه سيختفي إلى الأبد، فسوف سيذهب إلى بلد بعيد وسيعيش حياة هادئة بعيدا عن جو عائلته الخانق، وطلب منها أن تسامحه على هذا القرار وألا تحاول البحث عنه. وبالفعل اشترى علبة حبوب سامة، وقرر أن يتناولها مرة واحدة ويقفز من على كوبري المدينة في النهر الكبير، وكان لا يجيد السباحة.

استقل سيارة أجرة، واتجه ناحية كوبري المدينة ثم دفع لسائق الأجرة، ومشى خطوات ناحية سور الكوبري ونظر إلى النهر الكبير وقال في نفسه: “الآن سأتخلص من هذا الكابوس الطويل الذي يسمى الحياة” ثم أخرج علبة الحبوب السامة فتناولها كلها دفعة واحدة، وهم أن يقفز إلا أن يدا صغيرة شدت جانب بنطاله وبقوة، وسمع صوت طفولي يتشنج من البكاء وهو يقول له “أنا عايزه ماما” نظر يوسف إلى الطفلة الصغيرة التي تتشنج من البكاء نظرة طويلة صامتة وفجأة سقط مغشيا عليه.

غرفة العناية المركزة

“حالته جيدة الآن، يمكنك محادثته”، قالتها إحدى طبيبات العناية المركزة لسيدة شابة تحتضن طفلتها، كانت تنظر بقلق بالغ إلى غرفة العناية المركزة، تساءل يوسف: “أين أنا؟” أجابته أم زهرة: “أنت في المستشفى يا بشمهندس يوسف”، سأل يوسف: “من أنت؟” فأجابت: “أنا أم زهرة”، نظر يوسف إلى الطفلة الصغيرة التي كانت تنظر إليه بعينين تملؤهما البراءة والنقاء، فتبسم لها ثم سأل: “منذ متى وأنا هنا؟”

فأجابته أم زهرة: “منذ عشرة أيام، لقد كنت غائبا عن الوعي، حمدا لله على سلامتك يا بشمهندس”، أدار يوسف وجهه في خجل، قالت أم زهرة: “يا بشمهندس يوسف الحياة فيها ما يستحق أن تعيش من أجله، استغفر ربك الذي كرمك وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا، واحمده أن أرسل هذه الطفلة الصغيرة لتكون سببا في إنقاذك”، كانت كلمات أم زهرة قوية الوقع والتأثير على نفس يوسف.

سألها يوسف: “كيف جئت إلى هنا؟”، قالت أم زهرة: “لقد كانت ابنتي زهرة تائهة مني، وكنت أبحث عنها مثل المجنونة، فوجدت مجموعة من الناس متحلقين حول أب وابنته الصغيرة، فوجدت أنها ابنتي زهرة، و حَسِبَ الناس أنك زوجي، فقلت لهم إنك زوجي فعلا وتنتابك نوبات صرع، وطلبت منهم المساعدة، فساعدني الناس على نقلك للمستشفى، واكتشف الأطباء أن لديك حالة تسمم شديدة، وتطلب الأمر العناية المركزة،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وظللت في غيبوبة لمدة عشرة أيام كاملة، وكنت أنا مقيمة في حجرة المرافقين حتى أطمئن عليك، واليوم كانت فرحتي لا توصف حينما فتحت عينيك وتحدثت مع طبيبة العناية”. اغرورقت عينا يوسف بالدموع وطلب من الله الغفران، وشكره على إنقاذ حياته على يد تلك الطفلة الصغيرة البريئة، وعلى يد ملاك رحمة اسمه “أم زهرة”.

حكاية والدة الفتاة

قالت أم زهرة: “أنا أريد أن أعرف قصتك”، فقص عليها يوسف قصته كاملة، فقالت له: “لا تحزن لقد أراد الله أن يُبقيك على قيد الحياة، لابد وأن هناك خيرا كثيرا ستقدمه لهذا العالم”. تركته أم زهرة في هذا اليوم ليرتاح وعادت له في اليوم الثاني ببعض الزهور وبعض الروايات القصيرة ليقرأها، واستمر الحال كذلك إلى أن تعافى تماما وحان وقت الخروج من المستشفى، حينها قالت له: “لا تقلق يا بشمهندس يوسف أنا لدي شركة استشارات هندسية ويمكنك أن تستلم عملك متى شئت”، لم يشعر يوسف في حياته برحمة مثل هذه الرحمة، ولا بعطاء مثل هذا العطاء،

فقال لها يوسف: “يا أم زهرة لقد حكيت لك حكايتي فهلا حكيت لي حكايتك؟” فقالت: “حسنا، ولكن بشرط أن تحفظ حكايتي في نفسك كما حفظت حكايتك في نفسي”، فأومأ يوسف بالموافقة، فقالت أم زهرة: “حسنا.. لقد نشأت في بيئة مرفهة جدا وفي أسرة ثرية جدا، كل مطالبي مجابة، وكنت متفوقة في دراستي في الهندسة، وبعد تخرجي تقدم لي رجل ثري جدا فانخدعت بثرائه ونفوذه ووافقت دون أي تأنٍ، فقد كان الزواج من رجل ثري هو حلمي الوحيد،

وفعلا تزوجنا ولكن بعد الزواج بدأت المشاكل، فقد كان طوال الوقت مشغول بعمله وبأصدقائه وكنت أنا فارغة اليدين، لا أقوم بأي شيء سوى انتظاره آخر كل أسبوع عند العودة من سفرياته. كان رجل أعمال يفكر في البورصة والأسهم، وكنت أنا فتاة كل همها شراء الملابس ومتابعة الماركات الجديدة، لقد تزوجت في العشرين من عمري وظللت عشر سنوات بدون إنجاب، ضاقت الحياة بنا بسبب عدم الإنجاب وقرر زوجي أن يتزوج أخرى وأنا وافقت،

وبالفعل تزوج وأنجب، وهذا الأمر جعلني أشعر بالعجز رغم أن الأطباء أكدوا أنني سليمة وليس هناك ما يمنع الحمل، كان وجود طفل في حياتي هو كل ما أتمناه، لقد كانت حياتي فارغة تماما، وكنت أرجو الله دائما أن يرزقني بطفل يملؤ حياتي الفارغة تلك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حياة جديدة

التزمت بالصلاة وطلب المغفرة من الله على أي تقصير، وفعلا وبعد صبر عشر سنوات أكرمني الله وصرت حُبلى بزهرة، ولكن الزوجة الثانية أكلتها الغيرة وأوغرت صدر زوجي عليَّ فاستحالت الحياة بيننا إلى جحيم، فانفصلنا وأنا حُبلى، هذا الانفصال غير نظرتي للحياة، من فتاة مرفهة للغاية، لا هم لها سوى التسوق والترفيه، إلى فتاة تأخذ الحياة بجدية، هذا الانفصال جعلني فتاة مختلفة تماما.

وضعت زهرة وبعد سنة من ولادتها قررت تأسيس شركتي للاستشارات الهندسية بنصيبي من تركة أبي. وأنا الآن لا شيء معي في هذه الحياة سوى ابنتي زهرة وشركتي، هذه قصتي وأنا أعرض عليك العمل معي، ماذا تقول؟”.

أُعجب يوسف بقصة أم زهرة جدا رغم أنها قَصَّتها باقتضاب شديد، وأُعجب بقوتها وإنسانيتها، وقبل عرضها على الفور، وأقبل على العمل بحماس شديد، وتعاون مع أم زهرة حتى أصبحت شركتهم من أكبر الشركات في الاستشارات الهندسية، وفي يوم من الأيام عرض عليها الزواج فوافقت، وعاش الاثنان في سعادة ووئام تغشاهما الرحمة وتظلهما المودة والطمانينة والمحبة.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الخيال الفرانكنشتايني

الاختيار

كان سائقا متهورا

د. كارم محمود حمدان

مدرس لغة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة جنوب الوادى

مقالات ذات صلة