مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

أنت حر ما لم تضر، مقولة معروفة ولكن هل هي صحيحة؟ وما معنى الحرية أساسا؟

” أنا عندي حرية أعمل اللي أنا عايزه طالما مش بأذى حد، ومش من حقك تفرض عليا رأيك، أفكارك، قراراتك … الخ ..

جملة باتت تقريبًا من الثوابت التي يعتقد بها غالبية الأفراد في مجتمعاتنا وتلخص مفهوم حرية عند الكثيرين. “أنت حر ما لم تضر” هو ملخص نفس المعنى الذي يقصده هؤلاء مهما اختلف شكل الجملة أو صياغتها أو المواقف الجزئية التي شهدتها، بداية من مواقف الأبناء تجاه توجيهات آبائهم وأمهاتهم، إلى مواقف الأزواج تجاه أزواجهم، إلى مواقف الأشخاص عامة تجاه الأعراف والقوانين المجتمعية التي يحاول الأفراد أو المجتمع متمثلًا في القوى المنظمة فيه فرضها وتطبيقها.

العدل أمر حسن والظلم أمر قبيح، قضية يفطن اليها كل إنسان بفطرته ولا تحتاج إلى دليل.

هل يختلف أحد على ضرورة أن يكون الإنسان حرًا وأن يمارس حريته؟ بناء على القضية السابقة لا أعتقد، فمطلب الحرية هو مطلب عادل، من كونه حاجة إنسانية فطرية يحتاج اليها كل إنسان للتمييز بين اختياراته ومن ثم لاتخاذ قراراته وممارسة أفعاله. وهو يشعر بالحاجة إليها وجدانًا حتى أنه لا يكف عن السعي وراء نيل حريته وتحقيقها عند كل شعور بالقهر أو الظلم أو التقييد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كما أن الجبر والقهر على النقيض من ذلك لا يحتاج لإثبات كونه أمرًا قبيحًا ومرفوضًا كونه نوع من الظلم لأنه يتعارض بشكل مباشر مع قابلية الإنسان واستعداداته للاختيار التي خُلق عليها. ولكن يظل الاختلاف في معنى هذه الحرية، والسؤال هو إذا كان لا بدّ لكل إنسان أن يكون حرًا، هل يعنى ذلك أنه من حقه أن يرفض تمامًا أي توجيه أو نصح أو إرشاد من الغير ويعتبرها من صميم التدخل في شؤون الحياة؟ بل وألا يدخل ضمن نطاق واجباته توجيه هذا النصح والإرشاد؟ هل الحرية مطلقة للأفراد أم أن بها مساحات للتداخل بينهم؟ وهل تلك المساحات ضرورية أم تخضع هي ذاتها لمبدأ الاختيار بحيث يصبح من حق البعض قبولها أو رفضها؟

وإذا كان هذا السؤال محل البحوث الفكرية منذ الأزل فإنه أيضًا لا ينفك عن وقوعه ضمن أطر البحوث الأخلاقية، فماذا تفعل عندما ترى شخصًا عزيزًا أو قريبًا واقعًا في مشكلة، أو ينتهج سلوكًا معينًا ويكون لديك من العلم ما يؤكد ترتب الضرر أو الهلاك عليه؟

والأمثلة عديدة، فمما لا شك فيه أن فعل التربية والتوجيه الذي يمارسه الآباء تجاه أطفالهم هو مؤثر للغاية على تنمية وتشكيل شخصياتهم مدى الحياة، فهل يحق لهؤلاء الآباء غرس أسلوب وصفات وأخلاقيات معينة في الأبناء أم أن قانون حرية يرفض ذلك؟

إذا كانت إجابتك الفورية على هذا السؤال بنعم قطعًا فدعنا نرفع درجة هذا السؤال قوة فنقول وماذا إن كان هذا الإنسان لا يمت لك بصلة قرابة أو معرفة؟ هل تتساوى درجة أحقيتي  في أن أنهاك عندما تلقى بالقمامة مثلا في الشارع والتي تضر بها الآخرين مع درجة أن أنهاك عن تعاطى المخدرات التي لا تضر بها سوى نفسك؟ هل أصبحت ترى أن الحرية الحقيقية يجب أن تشمل أيضًا ألا يضر الإنسان نفسه؟ أم أنك تحترم كل ما يختاره حتى وإن كان كذبًا أو خرافة وترتب عليها مستلزمات باطلة وفاسدة بحيث تتركه قائلًا لنفسك تلك القولة المشهورة: “وأنا مالي !”

هل حرية مطلقة ام لها حدود ؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بل إن ما يرفع درجة صعوبة السؤال عندما نتعدى مرحلة التوجيه والإرشاد إلى مرحلة القوانين التي تقوم بإلقاء العقوبة على المخالفين للنهج والأنظمة، وحتى لا نحصر أنفسنا في نطاق الأديان التي قد يختلف البعض حولها، فحتى القوانين الوضعية التي نشأت في المجتمعات اللادينية هي أيضًا ممن ترى ضرورة عقلية لوجود القوانين والتي تمنح فيها القوى الممثلة للسلطة والقيادة حق توقيع العقوبة على الخارجين عليها بدعى الحرية.

فهل تعتقد ضرورة أن توفر الدول مثلا حق التعليم والرعاية الطبية وأن تفرض دساتيرها إلزامية تلك الحقوق والخدمات ولو بالقوة أم أنك من أنصار أن يختار الإنسان حقه في المرض والجهل مثلًا؟

هل أصبحت إجابة السؤال عسيرة؟

إن كنت من أنصار الحرية المطلقة التي تراها لنفسك وتضع قوانينها بما يناسبك، فلا بد من نفس هذا المنطلق أن ترفض العيش داخل المجتمعات، وتكون بذلك من المؤيدين والمنظّرين نحو الفردية والعزلة الكاملة، ولكن حيث إن الإنسان اجتماعي بطبعه وأنه يحتاج إلى هذا الاجتماع الذي يحقق له حاجاته المادية والنفسية الضرورية، فإنه لا بد من وجود قوانين تراعى هذه الاجتماع وتضبطه.

حسنًا تضبطه نحو أي وجهة؟ نحو وجهة العدالة والخيرية التي ثبت حسنها عقلًا بنفس المنطق الفطري السابق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من هنا كانت المساحة التي يمكن لنا أن نصوغ بداخلها مفهوم الحرية الحقيقي فيما يجب أن يحقق النفع الحقيقي للأفراد والمجتمعات. بما يعنى أن الخطوة الأساسية وبادئ ذي بدء تكمن في المعرفة؛ معرفة ماهية النفع الحقيقي، ومعرفة مصدره، من يقرره ومن يقع على عاتقه مسؤولية تطبيقه وإن كانت إجابات تلك الأسئلة محل بحث آخر كبير.

ولما كانت المسؤولية الحقيقية ملقاة على عاتق المعرفة، فإن القهر والجبرية المرفوضة هي بلا شك قهر الأفعال فلا ينبغي لأحد بأي حال أن يفرض على شخص آخر سلوكًا أو فعلا، بل أن العقل السليم يرفض أن يرتب تبعات الأفعال القهرية على الإنسان المجبر على فعله. من هنا كانت الحرية الحقيقية هي حرية الفكر وليس الفعل، فمن خلال الفكر يصوغ الإنسان رؤيته واعتقاداته ومن ثم يرتب عليها أفعاله، والمنطق السليم هو ما ينبغي أن يضمن للإنسان حرية التفكير بأن يبحث في الأدلة والقرائن ليميز ويتحقق وينظر ويتأمل ثم يخلص إلى النتائج بذاته.

والأديان الحقة هي التي تكفل لأصحابها حرية الاعتقاد بعد استيفاء وتوفير مصادر المعرفة والهداية فلا إكراه في الدين، وبنفس المنطق يصبح توجيه النصح والإرشاد على مستوى الأفراد نحو ما فيه الصلاح والخير عدلًا وأمرًا مستحسنًا لا مستقبحًا، بل أن هذا التوجيه إذا ما أمعنا النظر أكثر نجد أنه لا بدّ أن يرقى ليصبح واجبًا إذا ما كان الهدف نشر العدالة وتحقيق النفع للجميع. ويتبقى للمستمع حق قبول النصيحة أو عدمها لكنه لا يعطيه حق رفض النصح من الأساس. كما أن فرض التزام الأفراد بالقوانين والأخلاق المجتمعية ولو بالقوة فهو مطلوب ليضمن  فهوم في أدنى الأحوال حقوق وصلاح الغير، ولكنه لن يتعدى ليحقق نفعه الحقيقي تجاه صاحب الفعل الأخلاقي نفسه إن لم يصدر من جراء ملكة روحية نفسية أو تقوى داخلية يتمتع بها هذا الإنسان واقتصر منشؤه فقط على الخوف من العقوبة .

وبنفس هذا المنطق يمكن لنا التوافق والتسامح مع قضية نشر الأفكار والمعارف والاعتقادات أيًا كانت فطالما سلمنا بحرية الفكر فلا ينبغي لنا الخوف من الانفتاح على أية معرفة أو ثقافات طالما تمت من خلال قواعد المنطق والدليل وتوقفت عند حدود البيان والتنظير وليس بصورة الفرض بالقوة والإجبار أو الإرهاب الفكري، والحقيقة إن هذا المعنى للحرية ” أنت حر ما لم تعارض مفاهيم العدل والحق والخير” هو المعنى المسؤول والحقيقي الذى ينبغي أن يحل محل مفاهيمنا المغلوطة الشائعة وهو نفس ما يجعلنا نستطيع استيعاب مقولة الفيلسوف سقراط قديمًا عندما قال ” إن الحرية الحقيقية هي الإرادة التي استعانت بالمعرفة واختارت الحق

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

“.

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة