مقالات

هل يمكن تفسير السلوك بأنه نتيجة برامج مخزنة في المخ؟ .. الجزء الثاني

"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"

أوردنا في المقالة الأولى قرائن تجيز لنا أن نفترض أن المخ يعمل بما يشبه عمل الكمبيوتر، وافترضنا أن برامج المخ تتدرج كما يلي:

  1. البرامج التحليلية: التي تُحلل كل شيء حتى نفسها، وتُظهر نتائج تحليلها على شاشة الوعي.
  2. البرامج الإشرافية: البرامج التي تُشرف على كتابة البرامج التنفيذية، وهي تشبه ذاكرة القراءة فقط (Read Only Memory (ROM)) في الكمبيوتر، التي تحوي البرامج الأساسية التي تشغل الكمبيوتر، ولا يتعامل معها مستخدم الكمبيوتر ولا تُمحى بإطفاء الكمبيوتر.
  3. البرامج التنفيذية: التي ينتج عن تشغيلها تنفيذ السلوك الداخلي والخارجي للإنسان.

كيفية عمل البرامج الإشرافية

لنحاول معًا تصور كيف تعمل البرامج الإشرافية؛ إن هذه البرامج قبل أن تعمل تجري عدة عمليات رصد:

  1. رصد غرائز صاحبها ودوافعه التي تمثل مصلحته.
  2. رصد الواقع الخارجي المحيط بصاحبها.
  3. رصد قدرات صاحبها على التأثير على ذلك الواقع الخارجي.

وبعد عملية الرصد تتخذ البرامج الإشرافية قرارًا مثل:

  • تشغيل برنامج تنفيذي مخزن فعلًا لديها، وبواسطة هذا البرنامج يؤثر الشخص على الواقع بحيث يتغير هذا الواقع ليحقق له مصلحته.
  • إنشاء برنامج تنفيذي جديد للتعامل مع الواقع، إذ إن البرامج المخزنة لا يصلح أحدها للتعامل مع هذا الواقع.

إنشاء البرامج التنفيذية الجديدة

هل الدماغ يشبه الحاسوبنشاط إنشاء البرامج التنفيذية الجديدة يكون كثيفًا في مرحلة الطفولة، ويقل هذا النشاط تدريجيًا حتى يكاد ينعدم مع النضج، إذ تكون البرامج الإشرافية قد أنشأت برامج تنفيذية متنوعة متكاملة، كافية للتعامل مع كل ظروف الواقع المحيط بالإنسان.

يقتصر دور البرامج الإشرافية عندئذ على تشغيل البرامج التنفيذية أو تعديلها أو تحسينها لتقترب من الكمال، والكمال في نظر البرامج الإشرافية سعادة صاحبها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عندما تقرر البرامج الإشرافية تنفيذ برنامج تنفيذي فإنها تعمل التالي:

  • تُعد تصورًا ابتدائيًا للسلوك كما سينفذ، ويمكننا ملاحظة ذلك إذا هممنا مثلا بالقيام لفتح الباب، فلو أننا ركزنا انتباهنا لوجدنا أن تصور عملية النهوض وفتح الباب يظهر أمام الوعي قبل النهوض الفعلي، لكن ذلك يحدث بسرعة شديدة جدًا فلا نلاحظه عادة.
  • تَجد حماسًا انفعاليًا مناسبًا لأداء ذلك السلوك. وهذا الانفعال يشبه الشحم الذي يسهل حركة التروس.
  • تستثير الطاقة اللازمة للأداء، وهذا يشبه الوقود اللازم لحركة السيارة.

برنامج قيادة السيارة

لنأخذ مثلًا برنامج قيادة السيارة، ولنحاول أن نتخيل “نص” هذا البرنامج كما تسجله البرامج الإشرافية:

  1. أدر مفتاح السيارة.
  2. اضغط على دواسة الدبرياج بقدمك.
  3. ضع ذراع السرعة على الوضع الأول.
  4. اضغط على دواسة البنزين ببطء مع رفع قدمك من على دواسة الدبرياج.

تعليق “سوف تتحرك السيارة”.

  1. أمسك بعجلة القيادة وانظر إلى الطريق.
  2. إذا وجدت عقبة فاضغط على الفرامل.

تعليق “سوف تقف السيارة”.

  1. إذا زالت العقبة اذهب إلى الخطوة (2)

الشخص المعتاد على كتابة برامج بلغة من لغات الكمبيوتر مثل (Basic) لن يجد فرقًا بين هذه الخطوات وأي برنامج يكتبه للكمبيوتر.

لكن ما دور الوعي في هذه العملية؟

إن الوعي يشبه شاشة الكمبيوتر التي:

  • قد يظهر عليها نص البرنامج.
  • قد تظهر عليها نتائج تنفيذ البرنامج.
  • قد تظهر عليها البيانات في أثناء إدخال هذه البيانات إلى البرنامج بواسطة لوحة المفاتيح (keyboard)، لكن الشاشة لا تُصمِّم البرنامج ولا تخزنه ولا تشغله، كذلك الوعي هو واجهة للعمل العقلي.

لننتقل إلى مثل آخر.. برنامج الفعل المنعكس الشرطي

هل الدماغ يشبه الحاسوبإن البرنامج الأصلي عند الكلب:

10 IF (الطعام) THEN (اللعاب).

بافلوف دقَّ الجرس عند تقديم الطعام، أي أن البرامج الإشرافية للكلب سجلت صوت الجرس في أثناء رصدها للطعام.

الارتباط الشرطي لا يتكون من أول مرة بل بالتكرار، وهذا معناه أن البرامج الإشرافية تُعدِّل البرامج التنفيذية بعد دراسة الواقع المصاحب لتنفيذ هذه البرامج دراسة كافية.

لو أننا كررنا دق الجرس دون طعام فسوف يزول الارتباط الشرطي، أي أن البرامج الإشرافية ستعود وتحذف التعديل الذي أجرته على البرنامج التنفيذي.

إذًا فالبرامج الإشرافية تعمل وفق تقنيات برمجية معينة، ويمكن أن يكون من هذه التقنيات:

  1. تقليد الأشخاص المحيطين.
  2. تنفيذ ما توحي به الغرائز.
  3. الارتباط الشرطي.
  4. محاولة تحقيق أهداف مثل:
  • تجنب خبرات الألم.
  • استعادة خبرات السرور.
  • كسب احترام الآخرين.
  • التفوق على الآخرين.
  • صد هجوم الآخرين.
  • اكتساب القوة.
  • المحافظة على كرامة الشخص.

لنأخذ مثالًا لبرامج التقاليد الاجتماعية

لقد اشتهر البدو بالكرم، يمكن أن نعزو هذا إلى توقع البدوي لظروف شاقة في تجواله في الصحراء، بحيث قد يجد نفسه بلا طعام ولا ماء، وحينئذ قد يقابل خيمة لبدوي آخر فيتمنى أن يكون ذلك البدوي كريمًا فيستضيفه ويطعمه، ولعل هذا التمني المبني على الاحتياج هو مصدر تبجيله الشديد لصفة الكرم.

البرامج الإشرافية هنا تحلل الظروف الاجتماعية واحتياجات الشخص في ظل هذه الظروف، وكيفية تحقيق هذه الاحتياجات عبر تلك الظروف، ثم تصمم برنامجًا جماعيًا لتبجيل وممارسة التقليد الاجتماعي المناسب (الكرم هنا). وقد يبدأ الأمر بشخص أو أكثر ثم يأخذ هؤلاء الرواد بالدعوة –ربما بالقدوة أو بالمدح أو بالنصيحة– لهذا التقليد، فتستجيب البرامج الإشرافية لدى الآخرين بالتدريج حتى يعم التقليد الجماعة كلها.

نلاحظ هنا أن البرامج الإشرافية تستعين بالبرامج التحليلية، لكن بعيدًا عن شاشة الوعي التي يظهر عليها القرار النهائي المطلوب تنفيذه أو البرنامج الجماعي بعد تصحيحه.

كيف تنبع التقاليد من داخلنا؟

قد نستغرب هذه الفكرة، إذ كيف تنبع التقاليد من داخلنا؟ إنها في نظرنا قواعد عامة موروثة!، لكن التقاليد تختلف من بيئة إلى أخرى، والتقاليد لم ينزل بها وحي من السماء، فمن أين جاءت؟ ليس من مصدر آخر لها غير عقولنا!

نعم إنها بعد أن تنشأ تنتشر بين الأجيال الجديدة بتقليد الأجيال القديمة، لكن حتى في الأجيال الجديدة فإنه لو تغيرت البيئة فإن التقاليد سيطرأ عليها تغيير، فمن أين يأتي هذا التغيير؟ ليس له من مصدر كما قلنا غير عقولنا!

تلك العقول التي تعمل بلا هوادة بعيدًا عن شاشة الوعي سعيًا لتحقيق السعادة لنا أفرادًا وأعضاء في الجماعة!

هدف القوة كمثال

هل الدماغ يشبه الحاسوبلنأخذ هدفًا من الأهداف التي تحاول البرامج الإشرافية تحقيقها؛ هدف “القوة”.

لقد أوسع نيتشه هذا الهدف دراسة وتحليلًا حتى أنه اعتبره الهدف الخفي الحقيقي الوحيد لكل أنواع سلوك الإنسان، حتى أنه رآه يكمن خلف الحب نفسه إذ قال إن الحبيب يسعى للتربع داخل قلب حبيبه ليستولي على قوته.

قد يرى البعض أن نيتشه بالغ في رؤية طلب القوة وراء كل سلوك، إلا أنه بالقطع قد وقع على كشف جديد هام في مجال السلوك، حين كشف الستار عن ذلك الهدف الخفي المستتر “القوة”.

لكن ما عناصر القوة التي قد تضع البرامج الإشرافية برامج تنفيذيةً لتحقيقها؟ لعلها مثل:

  1. القوة البدنية (خاصة في الرجل).
  2. الجمال (خاصة في المرأة).
  3. الذكاء.
  4. العلم.
  5. المال.
  6. المنصب.
  7. التفوق.
  8. أن يكون المرء محبوبًا من الآخرين.
  9. أن يحتاج الآخرون إلينا.

نلاحظ أن القوة التي يحاول الشخص امتلاكها إنما يسعى إلى امتلاكها ليكون قويًا بالنسبة إلى الآخرين. فلو تصورنا شخصًا ما يعيش وحده تمامًا فلا معنى لأن يكون قويًا، إذًا فالهدف ليس أن نمتلك “القوة” أي قوة، لكن الهدف أن نكون “أقوى”!

مجال الإيمان بالله

لنحاول أن نقترب من مجال في غاية الصعوبة؛ مجال “الإيمان بالله”، إن الكافر يرى أن عملية الإيمان بالله اعتقاد في خرافات وأساطير، قد يكون مصدرها البحث عن الشعور بالأمن إزاء قوى الطبيعة القاهرة، أو البحث عن الشعور بالعزاء عن الواقع الاجتماعي التعس أو سوى ذلك، لكن المؤمن يرى بقلبه حقائق الإيمان الغيبية كأنها حقائق واقعة.

لذا فالبرامج الإشرافية عند المؤمن تضع إرضاء الله هدفًا أساسيًا يسبق كل الأهداف، فتجد المؤمن يتخلق بالأخلاق التي يدعو إليها الدين طلبًا لرضاء الله وللسعادة في الدار الآخرة، أما البرامج الإشرافية عند الكافر فلا تصمم له برامج تنفيذية إلا لتحقيق المصالح الدنيوية.

لكن البرامج الإشرافية ترصد الغرائز داخليًا وترصد الواقع خارجيًا، فمن أين يأتيها الإيمان أو الكفر؟

كما قلنا أن هناك نظريتان للإيمان: نظرية يعتقد بها الكافر، ونظرية يعتقد بها المؤمن. أما الكافر فيرى كما ذكرنا أن الإيمان محض اعتقاد بخرافات لتحقيق هدف نفسي ما، وأما نظرية المؤمن فمستمدة من نصوص دينه.

بناء على نصوص الدين فإن الإنسان مخير بصورة ما في اختيار الإيمان أو الكفر بعد أن تأتيه الرسل بالبينات، وهو مسؤول عن اختياره هذا ومحاسب عليه.

لنترك كلًا منهما إلى اختياره، فما يهمنا توضيح أن هدف البرامج الإشرافية لدى كل منهما مختلف.

مجال الطب النفسي

هل الدماغ يشبه الحاسوبالآن فلنأخذ مثالًا من مجال مختلف تمامًا؛ مجال الطب النفسي، فهناك نوع من العلاج النفسي يعرف باسم “الإيحاء الذاتي”، في هذا العلاج يكرر المريض عبارات معينة، مثل “أنا اليوم أفضل” أو “أنا أحب الناس”، فيؤدي هذا إلى تحسن أحواله النفسية.

يمكن أن نعتبر هذه العبارات كلمات مفتاحية (keywords) تَستدعي برامج تنفيذية معينة تعمل عند الأسوياء، وعندما تُستدعى بهذه الطريقة تحل محل برامج المرض النفسي، التي تكون قد سيطرت على سلوك الشخص المريض.

يمكن للشخص السوي أن يجرب مثل هذا الأسلوب في حياته الطبيعية، فمثلًا عندما يتوتر يكرر كلمة “الاسترخاء” أو “الهدوء”، فتستدعي هذه الكلمة المفتاحية (keywords) البرنامج التنفيذي الخاص بالاسترخاء فيقل توتر الشخص.

لننظر الآن إلى نوعية أخرى من البرامج التنفيذية؛ برامج اكتساب الاحترام أو برامج الاعتداد بالنفس، فكل شخص يعتد بنفسه بصورة ما، لكن نفس الشخص قد يقبل أشياء في موقف ولا يقبلها هي نفسها في موقف آخر.

الموظف مثلًا قد يقبل أن ينهره رئيسه لكنه لا يقبل أن ينهره مرؤوسه، ومعنى هذا أن البرامج الإشرافية تشغل أمام الرئيس برنامجًا للاعتداد لكنها أمام المرؤوس تشغل برنامجًا للاعتداد مختلفًا عن البرنامج الأول. فنحن هنا أمام حسابات دقيقة للظروف الخارجية وصياغة دقيقة للبرنامج السلوكي التنفيذي المناسب.

برامج استيعاب المعلومات

إذا انتقلنا إلى برامج تنفيذية من لون آخر؛ برامج استيعاب المعلومات، فإننا نجد أن استيعاب المعلومة قد يعني:

  • حفظ المعلومة عن ظهر قلب.
  • حفظ مكان وجود المعلومة.
  • حفظ طريقة استنتاج المعلومة من معلومات أخرى، وهو ما نسميه الفهم.

إذا لم يكن الشخص يحفظ المعلومة، ولا يحفظ مكان وجودها ،ولا يحفظ طريقة استنتاجها، فلا يمكننا أن نقول أنه يعرف شيئًا عن هذه المعلومة. والبرامج الإشرافية تضع كل هذه الأهداف أو بعضها نصب أعينها حين تصمم برامج تنفيذية لاستيعاب المعلومات.

هذه البرامج تختلف من شخص إلى آخر، فالبعض يتجه إلى الحفظ عن ظهر قلب، والبعض يتجه إلى التلخيص كأنه يحفظ فقط كلمات مفتاحية (keywords) تستدعي باقي المعلومات، والبعض لا يحفظ إلا إذا فهم، فتجده يجهد نفسه في الفهم ولا يطمئن إلا إذا فهم.

الآن.. ماذا فعلنا في السطور السابقة؟

لقد تجولنا في كمبيوتر المخ، محاولين الاقتراب من بعض أسرار صناعة البرامج السلوكية التي تدور داخله، التي لا نرى على شاشة الوعي إلا نتائجها، فهل اقتربنا؟

كلا بالطبع، فما زال الطريق طويلًا لسبر غور تلك البرامج العجيبة، التي أبدعها الخالق داخل عقولنا، لتحقق لنا السعادة، ولتحمينا حتى من أنفسنا!

مقالات ذات صلة:

العلاقة بين السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية

حتى الآلات الذكية في حاجة إلى النوم!

سجلات فوياجر الذهبية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

م. مصطفى جاد الكريم

مهندس نووي ، شاعر وكاتب