العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء العشرون
المدرسة المشَّائية: (18) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء
فلسفة الوجود السينوية: (8) وجود النبوة: كيفية دعوة النبي إلى الله
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشات السابقة (ج 19) عن وجود النبوة: إثباتها ودورها الحضاري. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: وجود النبوة: كيفية دعوة النبي إلى الله.
هـ. ما يبلغه النبي وكيفية دعوته إلى الله تعالى
إنَّ النبيّ البشرَ –وحده– جديرٌ بحملِ رسالة السماءِ إلى البشر. ويرى ابن سينا أن مهمة النبي لها جانبان: نظري (عقيدة) وعملي (شريعة)، فالنظري إرشاد نفوس الناس إلى سعادتها الأبدية بتلقينها أصول الدين: من الإيمان بوجود الله، وحقيقة الوحي، والنبوة، والمعاد، والتدبير العملي: تعليم الناس الجوانب العملية من الدين، ومن هذا التدبير: تنظيم الحياة العملية للأفراد والجماعات.
في ذلك يقول ابن سينا: “وهذا الإنسان (النبي) إذا وجد يجب أن يسنَّ للناس في أمورهم سننًا، بإذن الله تعالى وأمره ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه، ويكون الأصلُ الأولُ فيما يسنه تعريفَه إياهم أنَّ لهم صانعًا واحدًا قادرًا، وأنه عالم بالسر والعلانية، وأنَّ من حقه أن يُطاعَ أمره، فإنه يجب أن يكونَ الأمر لمن له الخلق، وأنه قد أعدَّ لمنْ أطاعه المَعَادَ المُسْعِدَ، ولمن عصاه المَعَادَ المُشْقِيَ، حتى يتلقى الجمهورُ رسمَه المُنَزَّلَ على لسانه، من الإله والملائكة بالسمع والطاعة”. وإذا وجَبَ على النبي أنْ يعرّف الناسَ أنَّ لهم إلهًا واحدًا قادرًا، فواجبٌ عليه كذلك أنْ يراعيَ في هذه المعرفة أحوالَ الناسِ واختلافَ فطرِهم وتفاوتَ مواهبِهم.
و. مراعاة النبي لأحوال الناس في الدعوة إلى الله تعالى
ليس كل إنسان ميسرًا للمعرفة الفلسفية والحكمة الإلهية، لذك فإن النبي لا يأتي ليعلَّم الناس ما لا يفهمه إلا خاصتُهم دون عامتهم، فلا يعلَّمهم الأمورَ الفلسفيةَ الدقيقةَ، وإنما يأتي برموز وإشارات للمستعدين لمثل هذه المعرفة، أما بشأن عموم الناس فإن النبي: “لا ينبغي له أنْ يشغلهم بشيء من معرفة الله تعالى فوقَ معرفةِ أنه واحدٌ حقٌ لا شبيهَ له. فأما أن يعدي بهم إلى أن يكلفهم أنْ يصدقوا بوجوده وهو غيرُ مشارٍ إليه في مكان، ولا منقسمٌ بالقول، ولا خارجَ العالم ولا داخله، ولا شيئًا من هذا الجنس، فقد عظَّم عليهم الشغلَ وشوَّشَ فيما بين أيديهم الدينَ، وأوقعهم فيما لا مخلص عنه، إلا لمن كان المُعَانَ المُوفقَ الذي يشذُ وجودُه ويندرُ كونُه، فإنه لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها إلا بكَد (لأن العامي ليس لديه القدرة على التجريد، وتصور موجود خارج الزمان والمكان)، وإنما يمكن القليلَ منهم أن يتصوروا حقيقة هذا التوحيد والتنزيه، فلا يلبثون أن يكذبوا بمثل هذا الوجود، ويقعوا في تنازع وينصرفوا إلى المباحثات والمقايسات (ينصرفوا إلى المجادلات العقيمة) التي تصدهم عن أعمالهم المدنية.
ربما أوقعهم في آراء مخالفة لصلاح المدينة، ومنافية لواجب الحق، وكثرت فيهم الشكوكُ والشُبَهُ، وصعب الأمرُ على إنسان في ضبطهم، فما كلٌ ميسرٌ له الحكمةُ الإلهيةُ، ولا إنسان يصلح له أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة، بل يجب ألا يرخص في تعرض شيء من ذلك، بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة وعظيمة، ويلقي إليهم مع هذا، هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شريك له ولا شبيه به، وكذلك يجب أنْ يقررَ عندهم أمرَ المعاد على وجهٍ يتصورون كيفيته، وتسكن إليه نفوسُهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالًا مما يفهمونه ويتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمرًا مجملًا، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته، وأن هناك من اللذة ما هو مُلْكٌ عظيمٌ ومن الألم ما هو عقابٌ مُقيمٌ. واعلم أن الله تعالى يعلم أن وجه الخير في هذا، فيجب أن يوجد معلوم الله تعالى وجه ما علمت، ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات تستدعي المستعدين بالجبِّلة (بفطرتهم) للنظر إلى البحث الحِكمي (الفلسفي)”.
ز. الفارق بين النبي والحكيم الفيلسوف
يتلخص الفارق بين الحكيم والفيلسوف، عند الشيخ الرئيس، في عدة فروق، منها:
- النبي تلقيه المعرفة من العقل الإلهي تام وكامل، والحكيم تلقيه المعرفة من العقل الإلهي ناقصة وجزئية.
- النبي يجيء بشريعة، والحكيم لا يجيء بشريعة.
- النبي ينظم الحياة العملية للأفراد والمجتمعات، لكن الحكيم يسعى وراء تكامله الذاتي.
خلاصة تأويلية لوجود النبوة عند ابن سينا:
إن الوجود لا يمكنه أن يستغني عن البشر النبي: النبوة موضوعٌ إسلامي يخصُ الفلسفةَ الإسلاميةَ، ولا يخصُ الفلسفةَ اليونانيةَ، ولقد حاولَ الشيخُ الرئيسُ إثباتَها عقليًا وفلسفيًا بحجج قوية، فواجبٌ أن يوجدَ نبيٌ، وواجبٌ أن يكونَ إنسانًا بشرًا يوحى إليه، وقد بيَّن الشيخُ الرئيس مكانةَ النبي السامية في درجات الوجود، وفرادته من دون الناس أجمعين، والفارق بينه وبين الحكيم الفيلسوف، وأوضح وظيفته النبوية والتشريعية، في أمور المصالح الإنسانية والعبادات، وبرهن على ضرورة النبوة الاجتماعية ودورها الحضاري الفعَّال في العالم والتاريخ الإنساني. وخلاصة الخلاصة: لا حضارةَ إنسانيةَ تصلحُ –مبدًا ومعادًا– دونَ البشر النبي الرسول.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتَنا التأويليةَ مع فلسفة الوجود السينوية: وجود المعاد: البعث الجسماني والروحاني.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول ، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر
الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر
الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا