مقالات

من قتل خاشقجي ؟ الحقيقة المغيبة

في الثاني من أكتوبر المنصرم دخل الكاتب السعودي جمال خاشقجي إلى مبنى قنصلية بلاده قبل أن يختفي للأبد! وسرعان ما انشغلت وسائل الإعلام التركية والعالمية باختفائه، لتشغل قضيته العالم حتى لحظة كتابة هذا المقال.

وتسربت الأنباء منذ ذلك الحين عن كيفية مقتله، فذهبت بعضها إلى أنه قطّع بالمنشار، بينما قالت أخرى أنه خُنق أولًا قبل أن يتم تقطيعه، وذهبت ثالثة إلى أن عملية تقطيعه تمت وهو على قيد الحياة حيث تم حقنه بمادة تمنع عضلاته من الحركة بينما تجعل وعيه وإحساسه في حالتهما الطبيعية ليشعر بكل ما يمر به، بينما ادعت تصريحات سعودية أنه لقي مصرعه أثناء شجار بالأيدي.

أما عن سبب الوفاة أو القتل فجاءت تحليلات متباينة أيضًا، فمن ذهب إلى أنها عملية اغتيال وتصفية سياسية بسبب مواقفه المعارضة، ومن ذهب إلى أن السبب خلاف شخصي مع مسئولين سعوديين، بينما قال آخرون إن زوجته -التي تربطها علاقات مع زوجات كبار المسؤولين في بلادها- وراء مقتله لأنه كان ينوي الزواج من أخرى.

أما عن القتلة المباشرين فذهب البعض لانتمائهم لأجهزة أمن واستخبارات سعودية وأنهم فريق اغتيال مدرب، بينما ذهبت أنباء أخرى إلى كونهم فريق مفاوضات كان مكلفا بإقناعه بالعودة لبلاده فقط لكنه تجاوز صلاحيته، وذهبت أخرى إلى أنهم أمن السفارة وتشاجروا مع خاشقجي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثارت أيضًا أنباء عن تصوير عملية مقتله بالفيديو وعن امتلاك المخابرات التركية للفيديو المزعوم، وقالت أخرى إن مقتله تم بثه مباشرة عبر برنامج “إسكايب” ليشاهده أحد كبار المسؤولين السعوديين، وإلى أن بث “إسكايب” تم اختراقه وتسجيله.

أما مصير الجثة فيظل غامضا أيضًا، حيث ذهبت أنباء لتسليمه لمتعاون تركي، وقالت أخرى أنه تم دفنه في الغابات المحيطة بالقنصلية، بينما قال البعض إن الجثة في سيارة تابعة للقنصلية، وذهب آخرون إلى أنها في بيت القنصل السعودي، بينما قال البعض الآخر إن جثته تمت إذابتها في الحمض، وذهب قول أخير إلى أن كبار المسؤولين عن قتله طلبوا رأسه فتم نقلها لبلاده!

أما عن تداعيات الحادثة في السعودية فقد تجاهلت وأنكرت السلطات كل ما ذكر أولًا، ثم اضطرت للاعتراف بمقتله، وحدثت تغييرات على مستويات عليا في القصر والمخابرات، وقدم الملك وولي عهده التعازي لأسرة خاشقجي، كما أصبح موقف ولي العهد هشًا وضعيفًا، وسط تكهنات بانتهاء مشروعه الطموح وتراجع نجمه، ورغبة القوى العظمى في استبداله.

على الطرف الآخر استغلت تركيا وحاكمها الوضع للضغط بشدة وببطء على ولي العهد السعودي وإضعاف موقفه، بينما وجدت إدارة “ترامب” نفسها في موقف محرج لتورط حليف مهم لها في مثل هذه القضية، وثارت أخبار عن محاولات أمريكية لتسوية الوضع ومنع تفاقمه، بينما ثارت أخبار أخرى عن مبالغ كبيرة يجب أن تدفعها السعودية حتى يمر الأمر بأقل قدر من الخسائر، بل إن الصحافة الإسرائيلية تحدثت عن كون الحادثة لها آثار سلبية على الكيان الصهيوني، إذ إنها تضعف حليف قوي للكيان المحتل، خصوصا وسط أجواء صفقة القرن التي تشكل المملكة ضلعًا مهمًا فيها، ووسط موجات التطبيع الجديدة التي اجتاحت المنطقة.

فمن قتل خاشقجي يا ترى؟ وما الحقيقة وراء اغتياله؟

قد لا نعرف بعض التفاصيل فيما يخص مقتل خاشقجي قريبًا، وقد لا نعرفها قط، لكن هناك بعض الحقائق الواضحة التي نعرفها وتأكدت معرفتنا لها بمقتل خاشقجي، هذه الحقائق تتعلق بالنظام العالمي الحالي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الحقيقة الأولى: هي أنه نظام عالمي ظالم، حيث إن مقدار الاهتمام بك وتسليط الأضواء والإعلام عليك يعتمد على مدى نفوذك في هذا النظام، ومدى سلطتك أو علاقاتك بأصحاب النفوذ والسلطة، صحيح إن مقتل خاشقجي جريمة ظالمة وبشعة لكن لماذا لم ينل آلاف الأشخاص الذين تعرضوا للموت ظلمًا بطرق اغتيال وتعذيب بشعة نفس الاهتمام الذي حصل عليه مقتل خاشقجي والذي يعمل بالمناسبة صحفيا في بعض الصحف العالمية وكان له اتصال بقيادات تركية قبل الاختفاء؟ لماذا لا تنال مسيرات العودة الفلسطينية وشهداؤها هذا الاهتمام؟ لماذا لا ينتفض العالم لمجاعات اليمن التي تقتل -طبقا للنظام الدولي نفسه- طفلا كل عشر دقائق؟ ولماذا يختلف الاهتمام في الشأن السوري حسب نوع القتيل ونوع القاتل؟

الحقيقة الثانية: هي أن هذا النظام العالمي هو نظام مادي تحركه المصالح فقط، فعندما تجد دولة ما مصلحة لها في فضح عملية قتل فهي تعمل على ذلك بكل طاقتها، في حين قد تتغافل عن جرائم أخرى ضد أشخاص آخرين أو ضد شعوب وأعراق بأكملها. وعندما تجد دولة كالولايات المتحدة مصلحة لها مع أنظمة تخالف الشعارات الظاهرية التي تتغنى بها فهي تسارع لتتغاضى عن كل هذه الشعارات في سبيل الدولارات والمصالح، مثلما صرّح “ترامب” عدة مرات.

الحقيقة الثالثة: هي أنه نظام عالمي بلا مبادئ ولا قيم أخلاقية، وهي نتيجة طبيعية للحقيقتين الأولى والثانية كما هو واضح، فقد غابت المبادئ كالعدالة والشفافية وحقوق الإنسان والرحمة والتعاون الإنساني في مقابل المصلحة والمال كما سبق.
الحقيقة الرابعة: إن من قتل خاشقجي -وكل خاشقجي- هو ذلك النظام العالمي الظالم المستبيح للقيم والحرمات، وأبناؤه الذين تربوا في كنفه، وتغذوا على مائدة فكره.

الحقيقة الخامسة: هي أن حلول المشكلات التي تواجه البشرية لن تكون إلا بتغيير هذا النظام الظالم المادي اللاأخلاقي الذي لا يعبأ إلا بلغة المصالح المادية العاجلة، وهذا التغيير لن يكون إلا بتبني العالم لرؤية عاقلة تعلي من شأن القيم والمبادئ والأخلاق، كما توفر للإنسان مصالحه ومنافعه المادية بما لا يتعارض مع هذه القيم والمبادئ. نظام عاقل يعتمد على العقل في تكوين رؤيته واتخاذ قراراته، ولا يكتفي بالحس الحيواني الذي لا يبحث إلا عن المنفعة العاجلة، نظام يوازن بين احتياجات الإنسان الروحية والمعنوية وتلك المادية، ويحترم الإنسان وحقوقه احتراما حقيقيا مبنيا على المبادئ وليس متغيرا متقلبا مع كل مصلحة أو مجرد شعارات كاذبة للاستهلاك المحلي والدولي.

عندها فقط سيتم حماية كل خاشقجي، وأخذ حقه، وسيتم حماية واسترجاع حقوق المستضعفين والمظلومين في كل مكان في العالم.

اقرأ ايضاً
البر بالمجتمع…كيف يكون الفرد باراً بمجتمعه ؟ وما أثر ذلك على المجتمع ؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأفكار المتداولة والذكاء الاجتماعي – هل نحن جميعاً كأفراد متساوون في القدرات ؟

الزواج كمال أم انتحار اجتماعي ؟ ما هي الطرق التي يقبلها والتي يرفضها المجتمع ؟

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة