العقل المتسامح .. خصائص وتجارب – الجزء الثالث
حتى أعطي التصور النظري عن العقل المتسامح، الذي ورد في المقالين السابقين بعدًا عمليًا، أود أن أطرح تجربة أعرفها من كثب بخصوص قضية التسامح. ففي عام 2004 دعتني الهيئة القبطية الإنجيلية إلى المشاركة بورقة بحثية في منتدى “حوار الثقافات”، فذهبت إليه معتقدًا أنني سأكون أمام حالة مكرورة، طالما عشتها في ندوات عقدناها في رحاب الأدب والمعرفة الإنسانية، وأنها لن تعدو أن تكون واحدة منها لا تختلف ولو في أدنى شيء، لكن ما وجدته لم يكن على هذا المنوال أبدًا. كان تجربة مهمة في التدريب على التفاهم والتسامح وقبول الآخر، تنطلق من التفكير إلى التدبير، ومن القول إلى الفعل، ومن النظري إلى العملي.
لقاء منتدى حوار الثقافات
كان اللقاء منعقدًا في فندق بسيط بالإسكندرية، وصلنا إليه من المثقفين قلة ومعنا شباب ممن يقرأون لنا ويتابعون ما ننتج ونعرف أسماء بعضهم. وزاد هذا وقتها من ظني أننا بصدد لقاء عابر، نقول فيه ما نريد وينصت إلينا الحاضرون، ثم لا تكون لنا فرصة في اختبار وقع كلامنا عليهم، وإن تناقشنا فكل شيء يمضي عابرًا، كلام في كلام، لا يستقر في الذهن منه، بعد مدة، إلا أقل القليل.
نعم كنا نعول على أن بعض من ينصتون إلينا سيدركون بعض المعاني ولو بعد حين، فهم إن رفضوا بعض ما نقوله أو حتى كله في أثناء سماعه، ستكون لديهم فرصة فيما بعد وقت اختلائهم إلى أنفسهم أن يفكروا فيه، ويعرضوه على ما يستقر في رؤوسهم ويعتقدون أنه شيء ثابت وصلب لا سبيل إلى زعزعته، فيصلون بأنفسهم إلى شيء مختلف، وهذا أفضل كثيرًا، لأن الاختيار أو الميل هنا سيكون حرًا، وما هو حر من الأفكار يرسخ ويبقى.
ذلك ما كنا نطمئن إليه في ما نقوله ونكتبه كله، وقد سبق لنا أن خبرناه سريعًا من تلقاء أنفسنا وقت صبانًا، حين كنا نقرأ شيئًا يتعارض مع أفكارنا وتصوراتنا، ونروغ منه ونرفضه ونمقته وقت السجال والنزال، لكن ما إن نختلي بأنفسنا حتى نعيد التفكير فيه، وكلما تمر الأيام تختمر المعاني وتنجلي وتصبح محل مساءلة ومشاكلة ومراجعة ونقد، ولا يبقى من صُلبها شيء غير قابل للتفتت والذوبان.
لكن اختبار هذا عمليًا مع آخرين لم نره كثيرًا وعميقًا بما يشكل ظاهرة إلا على سبيل التخيل والافتراض، دون أن نتشكك في أن بعضه صحيح. لكن هذا الصحيح لا نمسكه بأيدينا، وما نتمناه فيه ربما يكون أكثر مما يتحقق في الواقع المعيش، وكنا في حاجة طوال الوقت إلى اختبار نتائج القول، أو نرى التصورات النظرية كيف يمكنها التفاعل في دنيا الناس، منتقلة من سطور الكتب إلى الشوارع.
نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر
هيأت الظروف لي أن أدرك هذا التطبيق في تلك التجربة التي تهادت أمامي طيعة، مع الهيئة القبطية الإنجيلية. نعم كانت تجربة في تعلم التسامح، وأطرافها من المعنيين كلهم بالمسألة، دون مواربة. ففي مكان واحد، يجتمع شيوخ من دعاة المساجد مع مجموعة من وعاظ الكنائس، ومثقفين مدنيين لديهم رؤية مغايرة عن التصورات الدينية وبعض إجراءت التدين في الفكر والسياسة والتصرف الاجتماعي، دون أن يكون لهم بالضرورة موقف مخالف للدين، فتولد حالة من اختبار التسامح بين الأطراف كلها: مسلمون موزعون بين دعاة ووعاظ وآخرين من بني دينهم لكنهم لا يشاطرونهم الأفكار الاجتماعية والسياسية نفسها، ومسيحيون موزعون على الطوائف الثلاث الأساسية: أرثوذكس وإنجيليون وكاثوليك، وهناك من بين المدنيين من لديهم رؤية نقدية لأصحاب التصورات الدينية من هذه الأطراف كلها، وبعضهم متدينون تدينًا مختلفًا، مسلمون أقرب إلى التصوف، ومسيحيون أقرب إلى الرهبنة، أو أولئك الذين يرفضون أن يكون بينهم وبين الله حجاب من رجال أو مؤسسات أو آراء عتيقة. وهناك من هم أقرب إلى الإلحاد، العابر أو المقيم، أو هم كذلك بالفعل.
هذا الخليط من أصحاب الاتجاهات والاعتقادات كان في تمرين عملي لاختبار التسامح، أو هكذا بدا الأمر دون ترتيب منهم، حتى لو كان القائمون على المنتدى قد وضعوا ذلك ضمن الأهداف التي يسعون إليها. وكم كان تمرينًا حقيقيًا، مر بالمراحل كلها التي يسلكها الساعون إلى الارتقاء بمشاعرهم وأفهامهم نحو الآخر.
هل نحن متسامحون؟
بدأ التمرين بمحاضرات عن بعض القضايا التي تمثل همزات وصل بين الناس جميعًا، تقربهم أكثر مما تبعدهم، وتصنع بينهم ائتلافًا إن كانوا يرومون مصلحة أو حقيقة.
بعدها يُقسَّم الحاضرون إلى مجموعات مختلفة، يراعى أن يكون بينها هذا التنوع قائمًا، ليختلوا إلى نقاش أو عصف ذهني يقوده شخص من بينهم يلعب دور “المُيسر”، ثم ينتهوا إلى آراء وأفكار يدونونها ويعرضونها أمام الكل في جلسة جماعية لتحظى بنقاش أعمق، شأنهم في هذا شأن كل مجموعة على حدة.
هنا يكون المدماك الأول في النقاش قد ترسخ، وينفض المؤتمر، وبعد مدة ينعقد غيره، عن موضوع آخر لكنه لا يتناقض أو يتنافر مع سابقه إنما يتممه، كلبنة جديدة في بناء يشتد عوده بمرور الأيام.
لقد رأيت في أول هذا التمرين كيف كان المختلفون يتباعدون، يزاور كل منهم عن الآخر كأنه خصيم مبين، حتى وقت تناول طعام الإفطار والغداء والعشاء، كان كل طير يقع على شكله، فترى الأزهريين ودعاة الأوقاف قد جلسوا في طاولات متجاورة، وفي مقابلهم كان وعاظ الكنائس، أتباع كل طائفة يميل بعضهم إلى بعض. ويجلس المدنيون والعلمانيون متجاورين. وهكذا نكون أمام جزر منعزلة لا يصل بينها سوى سرسوب ماء ضحل.
توالت اللقاءات والنقاشات وانفتحت الجزر على بعضها، فاكتشف كل فريق أن بينه وبين الآخر كثيرًا مما كان لا يعرفه لأنه لم يكلف نفسه عناء التفكير، أو لم تأته فرصة جديدة للقاء بعيدًا عن الرواسب القديمة المعششة في الأذهان، كأنها وشم عتيق لا يبليه الزمن.
ثمرات اللقاء
مع هذا الاكتشاف ذابت الأوهام التي طال بقاؤها في أيام الجفاء والابتعاد المصنوع بين الكل. وزالت عن كل طرف شكوكه، وأخذ عقله ينفتح ونفسه ترحب، فأقبل على من يختلف معه إقبالًا لم يكن موجودًا أبدًا من قبل. ولا أقول هنا أن الجفاء كله قد ذهب، والشكوك كلها قد تهاوت، وصور الماضي كلها قد بهتت وتلاشت، لكن على الأقل ما جرى من انفتاح كان كفيلًا بخلق حالة جديدة، نفسية وعقلية، بين الجميع. ورأيت هذا منعكسًا تمامًا وقت الطعام والمقام وساعات الرحلة ذهابًا وإيابًا، بل إن كثيرين تبادلوا أرقام الهواتف والعناوين، وتواعدوا على اللقاء بعد انقضاء كل مؤتمر.
مع تزايد العدد وتجدد المؤتمرات أخذت الهواجس تتساقط شيئًا فشيئًا، وانفتحت نوافذ، تبعتها أبواب، ليفهم الكل أن ما يجمعهم أكبر كثيرًا مما يفرقهم. فالأديان في جوانبها الروحية والأخلاقية تتقارب، بل تتطابق أحيانًا وتتوحد أهدافها، وما للروح من طلب لا يمكن أن يهمله حتى أصحاب التصورات الدينية المختلفة، بل إن هؤلاء ينزعون أكثر إلى ما هو روحي، وربما هذا الذي جعلهم يتخذون موقفهم هذا من التجارب الدينية الشكلية والعابرة التي تتراءى لهم، ليل نهار.
كما أن الدور الأخلاقي للدين، في تحريمه للكبائر من قتل وسرقة وزنا وظلم، لا يختلف عليه دين أو ضمير حي أو فلسفة إنسانية خيرة أو فهم إيجابي لطبيعة الحياة. وهذه القيم المشتركة تكون، من دون شك، قاعدة للتلاقي والتفاهم، بخاصة حين ينصت كل طرف إلى أخيه، ويرى أنه يعض بالنواجذ على هذه القيم، أو على الأقل يحترم دورها ويعلي من قدرها.
علاوة على هذا فإن تطرق النقاش الى أمور اجتماعية وسياسية واقتصادية تخص الجميع ساعدهم على إدراك أنهم في سفينة واحدة، وأن القضايا الحيوية أو التي تمس حياتهم مباشرة ليست محل اختلاف، فالكل اكتشف أن ما ينقصه هو العيش في رحاب دولة تعلي من قيم الحرية والعدل والمساواة في تكافؤ الفرص، وأن الاختلافات الفكرية بشأن هذه القيم لا تؤدي إلى فصال تام بين أصحابها.
(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا