مقالاتفن وأدب - مقالات

المُغفلة … ما أبشع أن تكون ضعيفًا في هذه الدنيا!

بعض الناس مُغفلون بالقوة، وبعضهم مُغفلون بالفعل؛ بعضهم مُغفلون بالجهل والخوف، وبعضهم مُغفلون بالقهر، ما أبشع أن تكون مُغفلاً في هذا الوطن!

قهر السُلطة

هذا نصٌ للأديب الروسي «أنطون بافلوفيتش تشيكوف» Anton Pavlovich Chekhov (1860 – 1904) تحت عنوان «المُغفلة» The Ninny (1883)، يُجسد رمزيًا بشاعة «التغفيل» ممن يَستغفِل، وممن يُستغفَل، وربما كان العنوان المناسب لهذا النص هو «قهر السُلطة»، لأن الكاتب يتحكم في المُربية التي تُعد رمزًا للخاضعين للسُلطة وللمُعدمين في مجتمع «تشيكوف».

يعكس النص أيضًا مدى قوة الرأسمالية وما تُرسخه من دونية للفقراء ومكانة رفيعة للأغنياء؛ فالفقراء دومًا هم الضعفاء الذين تُسلب حقوقهم دون أن تُتاح لهم أدنى فرصة للدفاع عن حقوقهم، وهم الأداة التي يزداد بها غنى الأغنياء وفقر الفقراء، وتتسع بها الفجوة بين السُلطة –أيًا كانت– ومن يكابدون القهر تحت لوائها!

يتقمص المؤلف في هذا النص دور صاحب العمل الذي يتلاعب بمربية أولاده ويقتطع من راتبها بحُججٍ واهية؛ مستغلاً ضعفها وخوفها وحرصها على الاحتفاظ بوظيفتها، ورغم علمها بمغالطات سيدها، إلا أنها لا تنبس ببنت شفة، شأنها في ذلك شأن كثرة ممن يتجرعون ألم الظلم في صمتٍ في كل زمانٍ ومكان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا تتعمق الرسالة التي يحملها النص وتكتسب حداثـتها وعموميتها الزمكانية رغم كون أحداثها تدور في شمال شرق أوربا أواخر القرن التاسع عشر: سيكون هناك دومًا أناسٌ يؤثرون الصمت خوفًا، أو بالأحرى طلبًا للحياة الآمنة، حتى ولو انتُقصت رواتبهم ومستحقاتهم، وانتُهكت كافة حقوقهم المشروعة!

لنقرأ النص، ثم نعود إلى رسالته الأساسية مرة أخرى.

يوليا فاسيليفنا وصاحب العمل

[منذ أيام دعوتُ إلى غرفة مكتبي مربّية أولادي «يوليا فاسيليفنا» Yulia Vassilyevna لكي أسوي حسابي معها. قلت لها: اجلسي يا «يوليا»، فلنقم بتسوية مستحقاتك. أنا على يقين من أنك بحاجة إلى بعض المال، لكن إصرارك على التمسك بالشكليات يحول بينك وبين طلبك له.

حسنًا، لقد اتفقنا على أن أعطيك ثلاثين روبلاً في الشهر. قالت: بل أربعين! قلت: كلا، ثلاثين فقط، لقد قمت بتدوين ذلك، ولم أعط أية مربية من قبل أكثر من ثلاثين روبلاً!

حسنًا، لقد عملت لدينا شهرين. قالت: بل شهرين وخمسة أيام! قلت: بل شهرين بالضبط، هكذا مُسجَّل عندي، إذن تستحقين عنهما ستين روبلاً. وحيث أنك لم تقومي بالتدريس لـ «كوليا» Kolya يوم الأحد من كل أسبوع، بل كنت تصطحبينه فقط للتنزه، إذن نخصم تسعة أيام آحاد، تُضاف إليها ثلاثة أيام أعياد، فيصبح المجموع اثنا عشر روبلاً.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

احمَّر وجه «يوليا» خجلاً وعبثت في توترٍ ظاهر بأهداب فستانها، لكنها لم تنطق بكلمةٍ واحدة! أضفت: وكان «كوليا» مريضًا لمدة أربعة أيام ولم تقومي بالتدريس له، كنت فقط تُدرسين لـ «فانيا» Vanya؛ ثم كانت أسنانك تؤلمك لمدة ثلاثة أيام فسمحتْ لك زوجتي بالابتعاد عن الأطفال بعد العشاء! إذن المجموع اثنا عشر زائد سبعة، أي تسعة عشر، نخصم المستحق عن هذه الأيام فيكون الباقي واحدًا وأربعين روبلاً، مضبوط؟!

احمرّت عين «يوليا فاسيليفنا» اليسرى واغرورقت بالدموع وارتعش ذقنها وسعلت بعصبية وانتفخ أنفها، لكنها لم تقل شيئًا! قلت: قُبيل رأس السنة كسرتِ فنجانًا وطبقًا، نخصم اثنين، الفنجان أغلى من ذلك، فقد كان إرثًا عائليًا، لكننا لن نهتم بذلك، فنحن الذين ندفع!

مزيد من القهر

وبسبب إهمالك تسلق «كوليا» الشجرة ومزق معطفه، نخصم عشرة، وبسبب إهمالك أيضًا هربت الخادمة بأحذية «فانيا»، وكان يجب أن تنتبهي لها، فأنتِ تتقاضين راتبًا جيدًا! نخصم خمسة أخرى؛ وفي العاشر من كانون الثاني (يناير) أخذت مني عشرة روبلات… همست «يوليا فاسيليفنا»: لم أفعل! قلت: لكني قمت بتدوين ذلك! قالت: حسنًا، ليكن!

إذن من واحد وأربعين نخصم سبعة وعشرين، فيتبقى لك أربعة عشر روبلاً… امتلأت عيناها بالدموع، وتعرق أنفها الصغير الجميل… يا لها من فتاة صغيرة مسكينة! قالت بصوت مرتجف: أخذتُ النقود مرة واحدة فقط؛ أخذت ثلاثة روبلات من زوجتك، لم آخذ غيرها! قلت: حقا؟

انظري، لم أدون ذلك! نخصم إذن من الأربعة عشر ثلاثة فيكون الباقي أحد عشر روبلاً … ها هي نقودك يا عزيزتي! ثلاثة، ثلاثة، ثلاثة، واحد، واحد، تفضلي. أعطيت لها أحد عشر روبلاً، فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة، وهمست: شكراً!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

انتفضتُ واقفًا، وأخذت أروح وأجيء في الغرفة، واستولى عليّ الغضب! سألتها: شكراً على ماذا؟ قالت: على النقود! قلت: ألا تدركين أني كنت أغشك وأسرق أموالك؟ أكُل ما يمكنك قوله بعد أن فعلت ذلك أن تقولين لي شكرًا؟!

قالت: عملت في أماكن أخرى ولم يعطوني شيئًا! قلت: لم يعطوكِ؟! ألا يثير هذا الدهشة؟! لقد مزحتُ معك، لعبت عليك لُعبة قذرة… سأعطيك نقودك، الثمانين روبلاً كلها! ها هي في مظروف جهزته لكِ! ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟

ما أسهل أن تكون قويًا في هذا العالم

لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا أن يكون المرء ضعيفًا إلى هذا الحد؟ هل يمكن أن تكوني مُغفلة إلى هذه الدرجة؟! ابتسمتْ ابتسامة صغيرة مريرة وقالت: نعم، يمكن! اعتذرت لها عن هذا الدرس القاسي وسلمتها الثمانين روبلاً كلها وقد ارتسمت على وجهها الدهشة، فشكرتني بخجل وخرجت، تطلعتُ في أثرها وفكّرتُ: ما أسهل أن تكون قويًا في هذا العالم!].

مرة أخرى، الرسالة التي يحملها هذا النص الأدبي تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتلخص في أن «يوليا فاسيليفنا» لا تعدو أن تكون تجسيدًا رمزيًا لأولئك الروازح تحت سلطات ونظم عنكبوتية تغتصب حقوقهم الأساسية التي أقرتها لهم الشرائع والمواثيق والأعراف دون مواربة، إما لفساد هذه السلطات وتلك النُظم، أو لفشلها في التسييس العادل لمجتمعاتها وتراكم مديوناتها العقلية؛

فهي تصادر أساسًا على حرياتهم بأشكالها المختلفة فتدفعهم قسرًا إلى الزُهد فيها، وتختصر أبعاد ثقافتهم في بعدٍ واحد فقط هو السجود لجلاديهم والتسبيح بملكاتهم! «يوليا فاسيليفنا» هي كل من يستسلم لظلم الأقوياء وأرباب المال والحُكم والهيمنة؛ هي كل من يرى حقه يُسلب أمام عينيه ولا يملك سوى الخضوع قهرًا واستسلامًا، وربما حرصًا على حياته وحياة ذويه المنقوصة… هي كل من مات خوفًا قبل أن يموت جسدًا ونفسًا!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً:

لماذا ينتشر الظلم ولا ينتهي؟

خطايا الرأسمالية

حضارة تم بناؤها على العبودية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة