مقالات

النقاشات بين الحقيقة والعبث

دعني أخبرك قصة صغيرة في البداية، نتحرك في سيارة نحو وجهتنا، يبدأ راكبان في النقاش حول موضوعات متفرقة قضايا اقتصادية، قضايا دولية، أي الفرق سيحصد دوري كرة القدم لهذا العام.. إلخ، ينضم إليهم ثالث، يصرخون في وجوه بعضهم البعض، تعلو الأصوات أكثر، هذا يستشهد بدليل لا يمت للموضوع بصلة وذاك يجيب إجابة منمقة ولكنها ليست لذات السؤال.

يا إلهي! لا أحد منهم ينصت للآخر! كل منهم لا يسمع إلا صوته يقاطعهم صوت طفل لا بد أنه يتضور جوعا. رباه! لقد نسي والده إطعامه شيئا من أول الطريق، فقد طال النقاش، يفتح والده الحقيبة ويخرج شطيرة يعطيه إياها، يعلل الطرف الآخر بكاء الطفل بأنه اعتراض على كلام والده: “انظر.. حتى ابنك يصرخ معترضا على آرائك وأفكارك” يا إلهي! وما علاقة هذا بذاك؟!

أفكر أن أتدخل لأنهي هذا العبث ولكني أنأى بنفسي عن مثل هذه النقاشات التي لا تفيد. ضللنا الطريق ومن ثم بدأت الاقتراحات حول الطريق التي يجب أن نسلك، مجددا لا أحد ينصت لأحد لا أحد يرى رفيقه حتى، حان وقت التدخل لإنقاذ الموقف فأنا أعرف الطريق جيدا.

النقاش.. يا لها من طريقة للوصول إلى الحقيقة أو للبعد عنها أيضا! نقاشات عديدة في الشارع، في الجامعة، في المواصلات العامة، في العمل.. إلخ، الكثير منها لا يسمن ولا يغني من جوع فهو خارج عن إطار تأثيرنا، هل ندخل هذه النقاشات لدفع الملل؟ أم أنه سير مع التيار؟ أم أنها الثقافة السائدة؟ دعنا من ذلك ولننظر إلى القليل الذي قد يفيد، هل نطلب الحقيقة في هذه النقاشات؟ أم نطلب الانتصار الشخصي على الخصم؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نتناقش لنصل للحقيقة، لا لإعلان الحرب على الطرف الآخر

من الذي أقنعنا أن النقاش حرب وأن الانتصار هو الهدف؟! نعم.. يحتاج المرء إلى مراجعة أهدافه من النقاش قبل مراجعة آرائه، وإلى البحث عن الحقيقة بدلا من الانتصار بعد انتقاء المناقشات نفسها.

هذا المشهد البسيط الذي دار في السيارة ليس طائرا ضل طريقه وظل يغرد خارج السرب بل هو صفحة في كتاب، شجرة في حديقة مليئة بالأشجار والنباتات من كل الأصناف، إن هذه الحالة للأسف ليست حالة فردية بل هي مشهد متكرر لطالما شاهدناه مرارا وتكرارا منذ نعومة أظافرنا، فالطفل قد يرى من والديه مثل هذه النقاشات دون إدراك منهما لما يغرس في طفلهما بسبب هذا السلوك، يكبر الطفل قليلا فيذهب إلى المدرسة -صانعة الأجيال- ليواجه هذا الأمر مرة أخرى ولكن معلموه هم أبطال الموقف هذه المرة،

يفتح التلفاز فيرى رجلين يتناقشان في أحد البرامج ينهجان ذات النهج من صوت مرتفع ومحاولة كلا منهما الانتصار على الآخر، يرى هذا المشهد متكررا حوله في مختلف مراحل حياته ثم نريد منه أن يناقش بالحجة والبرهان وأن يراعي آداب النقاش! كيف؟ أليست المقدمات تؤدي إلى النتائج؟ هل نزرع شجرة ليمون ونتوقع منها أن تثمر برتقالا؟!

كلنا نعرف أهمية الوقت والكثير منا يدرك أنه أهم ما نملك، ولا يخفى علينا أن هذه النقاشات تسرق أوقاتنا بلا جدوى، ولكن يبدو أننا أضعنا شيئا آخر بسبب هذه المهاترات، نعم.. لقد ضيعنا أجيالا أغرقناها في هذا الوحل، لقد نشأنا في ظل هذه المنظومة وأصبحنا أحد تروسها التي تضمن استمراريتها،
علينا أن نكسر هذه الحلقة ونبدأ بأنفسنا في الالتزام بآداب النقاش والتحاور بالمنطق وتقديم الأدلة والبراهين محاولين أن نكون مثالا حيا يحتذى لمن يناقشنا ولمن يحضر المناقشة على حد سواء، أليس الفعل أصدق من الحديث وأكثر وقعا؟!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

ثقافة الحوار والحوار الثقافي

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عالم هلامي

لماذا لا أرى إلا نفسي؟

أسماء رشيدي

الفرقة السادسة كلية طب أسوان عضو نادي أدب طب أسوان

مقالات ذات صلة