في مندرة محمد الجيلاني

يلّا شغل خيالك معايا، أهم حاجة تشغل الخيال عشان تعيش وسط دقات الطبول وصوت السلاح والأمواج، وريحة الدخان ممزوجة بريحة طمي النيل، بدأت تشغل الخيال؟ يلّا بينا.

معارك خاضها القناوية ضد الحملة الفرنسية

التوقيت ده كان شهر رمضان المبارك، واحد من أصعب شهور رمضان اللي عدت على مصر لسبب واحد، إنه مكنش شهر مسالم لكنه كان مليان مناوشات ما بين قوات فرنسا اللي بتحاول تتوغل في الصعيد من قنا لأسوان، وبين مراد بك اللي معاه شوية مماليك على شوية أهالي بأسلحة بدائية، وحلل ونبابيت وخلافه، صيام ومعارك وراها معارك وصيام.

جيش مراد بك اللي كان بيحاول يتماسك بأي شكل قصاد القوة الحربية والأسطولية لفرنسا، كان ضعيف جدًا، مفيش روح للمقاومة، مفيش جاهزية خالص، هو صحيح فيه مدد جاله من ناحية مكة عبارة عن ٢٠٠٠ من الحجاج العرب وانضموا فعلًا للجيش، لكن دي مكانتش القوة كلها، ولا هيقدر إنه يقاوم فرنسا بالأعداد الصغيرة دي.

في أول رمضان خالص، حصلت أكتر من معركة، منها معركة سمهود اللي للأسف قوات فرنسا بقيادة بليار كسبتها، وراها معركة تانية اسمها الردسية، ووراها معركة أبو مناع ومعركة قنا، كلها معارك شد وجذب كان الفرنسيين بينتصروا فيها ويتقدموا، وقوات مراد بك اللي كان قوامها ١٢ ألف مقاتل “عالفاضي” بتنهزم وتنسحب، والقرى والحصون وراهم بيشعل فيها الفرنسيون النيران، وانتهت حلول الأرض ومبقاش فاضل غير حلول السماء، لحد ما وصل شهر مارس، في آخر أيام شهر رمضان.

استعدادات المصريين قبل المعركة الفاصلة

في الفترة دي كان فيه ٣ حاجات مهمة بيحصلوا بالتوازي كده..

فرنسا بقيادة “ديزيه” بتحرك أسطولها من إسنا مقر استقرارها هناك لأسيوط، وبتجمع كل القوات الفرنسية المرابطة على الشط بطول النيل عشان تعيد تنظيم القوات كلها، وتبدأ تسيطر على الصعيد كله لحد منطقة القصير ناحية البحر الأحمر، أسطول مكون من ١٢ سفينة عليهم ٥٠٠ جندي وكل أسلحة الجيش الفرنسي، منها سفينة “لي إيطاليا” الخاصة بنابليون نفسه واللي بيتفائل بيها.

المصريين من كل حتة في مصر –من القاهرة للدلتا للصعيد– بدأوا يسافروا ناحية قنا عشان ينضموا للمقاومة مع مراد بك، وكان عددهم ١٠ آلاف شخص تقريبًا.

طيب إيه اللي حصل؟

يوم ٢ مارس الموافق ٢٦ رمضان، جت رياح معاكسة ناحية الأسطول الفرنسي بقيادة القومندان “موراندي”، خلته يتأخر شوية عن باقي القوات الفرنسية والجيش، شوية صغيرين جدًا، بس الشوية الصغيرين دول كانوا كفاية عشان الخبر يوصل لمراد بك، ويتوكل على الله بالقوات اللي معاه، ويقرر إنه يهاجم السفن دي.

اقرأ عن: محاكم التفتيش الفرنسية

محاصرة أهالي نجع البارود الفرنسيين بالعصا والنبابيت

١٢ سفينة فرنسية ضخمة، ضخمين فعلًا مش أي سفن كده والسلام، سفن من اللي بيكون فيها مدافع، عليها ٥٠٠ جندي، وعليها كمية سلاح تكفي فرنسا كلها، بالإضافة للأدوات والمؤن والآلات الموسيقية الحربية، موجودين في نص النيل بعيد عن اليابسة، يعني بمجرد ما القبطان هيلمح إنك بتقرب هيضرب مدافع عليك، ومش هتلحق لا تهرب ولا تتقدم.

في المقابل إنت معاك إيه؟ شوية مراكب خوص صغيرة معمولة بالإيد كده، كام بندقية يدوية، شوية نبابيت وحلل، عرب ماسكين سيوف، وأهالي رافعين نبابيت، فإنت رايح تعمل إيه؟ العقل بيقول إن مفيش فرصة تقرب حتى، فما بالك إنك عايز تهاجم السفن دي؟ خصوصًا سفينة إيطاليا دي اللي نابليون قدر إنه يحتل إيطاليا بيها، متخيل؟

على الشط يمين وشمال، الأهالي بالنبابيت والبنادق اتوزعوا واقفين باصين على النيل، عشان يحاصروا السفن دي يعني زي يعملوا عليها دايرة كده بس من بعيد على الأرض، واقفين كده قافلين يمين وشمال والسفن في النص، حلو؟ الكلام ده ناحية قرية البارود الحتة اللي كان فيها الأسطول الفرنسي بفلوسه وجنوده وسلاحه.

انضمام الشيخ الكيلاني لمعركة البارود

في نفس الوقت وصل الشيخ الكيلاني المغربي مع المتطوعين العرب، وكانوا كلهم لابسين عمم خضرا ورافعين رايات، بيوصلوا في مشهد ما قبل المعركة على طول والأهالي لسة بتحاوط السفن على اليابسة برة، وبتبدأ تتوزع معاهم يمين وشمال زي ما بنتخيل كده بالظبط.

شايف المشهد في دماغك؟ شايف الجلاليب المصرية والنبابيت المرفوعة والأكمام المتشمرة؟ شايف العمم الخضرا ورايات التوحيد مكتوبة على القمصان؟ شايف علم فرنسا اللي بيرفرف على سفن ضخمة طويلة؟ تخيل بقى اللي جي معايا.

الرجالة على اليمين والشمال بدأوا إنهم يخرّجوا مراكب صيد صغيرة ومراكب خوص ويقفوا عليها وبدأوا يتحركوا ناحية السفن الضخمة دي، على كل مركب صغير فيه واحد ماسك بندقية بيضرب على السفن دي عشوائي كده، بيحاولوا إنهم يقربوا من السفن دي بأي شكل، ولما بدأ صوت ضرب النار يشتغل، السفن رفعت مدافعها التقيلة بسرعة وقررت إنها تضرب على الناس وعلى المراكب الصغيرة دي، متخيل مدافع تقيلة بتضرب على ناس راكبة مراكب صغيرة تفجرها؟

اقرأ أيضاً: الحملة الفرنسية على مصر

تعرف على: حملة يعقوب على الصعيد

أبناء قنا وقفوا بشجاعة أمام المحتل الفرنسي

المدافع كانت بتضرب بكثافة، لكن المصريين والعرب مستسلموش، وكانوا بيقدروا إنهم ينشنوا ويجيبوا واحد ورا واحد من الملاحين الفرنسيين اللي على ظهر السفن الضخمة دي، متعرفش إزاي بس قدروا فعلًا إنهم يعملوا كده، ولما المدافع ردت للمرة التانية ولقوا إنهم مش هيعرفوا يوصلوا للسفن دي عن طريق المراكب اللي أغلبها تدمر أصلًا ومات أغلب اللي عليهم، كان وقت المجازفة.

الحجازيين العرب بقيادة الكيلاني قرروا إنهم هم والمرابطين على الشط يمين وشمال، إنهم يقلعوا جلاليبهم، ويشمروا لبسهم، وينزلوا المياه، عشان ياخدوها سباحة للسفن دي، بما إن حركة المراكب منفعتش، مبدهاش بقى ناخدها سباحة ونحاول نحتل أي سفينة من الـ١٢ دول.

ماذا فعل أهل نجع البارود بسفن الفرنسيين؟

 

شايف دلوقتي المشهد؟ رجالة بتنزل وفي إيديها نبابيت وحلل، بتنزل النيل تاخدها سباحة لحد ما توصل لمكان تمركز السفن العملاقة دي، وبينجحوا فعلًا إنهم يوصلوا لأول سفينة في الأسطول ده، وبمعجزة بيمدوا الحبال ويطلعوا على السفينة من كل جنب فيها من النيل، وتدور معارك صغيرة على سطح السفن دي وهاتك يا ضرب، تنتهي بأن كل الجنود الفرنسيين اللي على ظهرها بيتقتلوا ويترموا من فوق، والرجالة بيقدروا إنهم يحتلوا أول سفينة ويرموا حمولتها كلها في النيل –من سلاح ومؤن وذخيرة– ومنها بتبدأ المعركة الحقيقية مع باقي السفن.

المصريين والجيش الحجازي المغربي الصغير ده قدر إنه يحتل أول سفينة، وفرغوها خالص، وقتلوا اللي فيها كلهم، ومنها قربوا من باقي السفن وعملوا سلاسل وصول كده بين السفينة دي والباقي، وبقوا ينطوا من السفينة دي للسفينة دي يفرغوها ويخلصوا على اللي فيها، وينزلوا علم فرنسا من عليها، شوية من على السفينة المحتلة وشوية جايين سباحة من النيل، لحد ما قدروا في زمن قياسي إنهم يحتلوا كل السفن في الأسطول، ما عدا سفينة واحدة، سفينة نابليون المفضلة “لي إيطاليا” بقيادة القومندان موراندي.

مقاومة الصعيد والحجازين للحملة الفرنسية

موراندي كان شايف السفن بتاعته بتروح واحدة ورا التانية، بس هو راكب حرفيًا حصن كبير بمدافع، صعب إنه يحصل فيها زي ما حصل في باقي السفن، فكان أول قرار ياخده هو إنه يكثّف الهجوم على الأهالي بالمدافع التقيلة، وبقى الضرب عشوائي يمين وشمال، في المياه، وعلى الشط، وبدأ الأهالي والعرب يتصابوا واحد ورا التاني، بس لسة بيتقدموا، بيواجهوا الضرب ويتقدموا، حتى والدخان محوّل النهار ليل من كثافة الضرب، بس لسة بيتقدموا.

الموقف ده خوّف موراندي الصراحة، مهما بيضرب لكن أعدادهم بتزيد، وفي أي لحظة ممكن يطلعوا على السفينة، فجرب إنه يعمل مناورة كده أنه يلف السفينة، لكن معرفش، لسبب واحد إن الملاحين اللي سايقين السفينة أصلا نصهم اتصاب بسبب هجوم الأهالي عليهم من برة، طب يعمل إيه؟ جرب إنه يحاول ينسحب وفرد الأشرعة وكان هيلف ويهرب، لكن الرياح كانت معاكسة، وبردو معرفش.

بكل قوته وقوة الباقيين من رجالته حاول يلف السفينة تاني عشان يهرب من الكماشة اللي عملها المصريين والمكيين عليهم، الذخيرة قربت تخلص وهو مكثف الهجوم بشكل مرعب ومفيش حاجة بتحصل، فلازم يهرب، ولف السفينة فعلًا وهو عارف إن الحركة دي خطر ومش هتنجح، المكان ضيق والريح معاكسة، بس مقداموش غير إنه يعمل كده.

اقرأ أيضاً: الاستعمار الفرنسي ومعركة الوعي في إفريقيا

تعرف على: بطل المقاومة الشعبية ” محمد كُريم “

استشهاد الشيخ الكيلاني

مع اللفة الشديدة دي، السفينة خيّشت، ودخلت في تل من الرمال واتقلبت نص قلبة كده على جنبها، واتحاصرت مبقتش تتحرك خالص، فالأهالي أول ما شافوا المنظر ده –تخيل صوت التخييش وريحة الدخان– هللوا، وجريوا على السفينة عشان يحتلوها، وبدأت معركة جديدة جنب السفينة اللي واخدة جنب على الرملة دي محاولة لاحتلالها والسيطرة عليها.

موراندي شاف الهزيمة بنفسه، وشاف الأهالي طالعين فوق ظهر السفينة والباقي بيقرب عايز يطلع، في اللحظة دي حس إن هيا دي النهاية خلاص، فبسرعة بيلملم موراندي جراحه وبيتسحب من ورا رجالته لمخزن السفينة اللي فيه قنابل وبارود وأسلحة، وبيقوم مولع فيها النار، مهو مش هيستسلم، طالما خسر المعركة يبقى عليا وعلى أعدائي.

بيولع موراندي النار في السفينة تحت، وبيزعق في رجالته عشان ينطوا من السفينة بسرعة، وفعلًا كلهم بينطوا والنار ماسكة في مخزن السلاح، وفي لحظة، انفجار مهول بيهز المنطقة كلها، موراندي فجر سفينته “إيطاليا” في الكل، شظايا زي طلقات الرصاص بتستقر في أجسام الفرنسيين وفي المصريين والعرب، مصابين بالمئات بسبب الانفجار ده، وبيموت موراندي متأثرًا بجراحه هو كمان بسبب الانفجار، وللأسف بيتصاب الشيخ الكيلاني هو كمان وبيستشهد بعد كده ويتدفن في مصر هنا.

هزيمة الحملة الفرنسية في الصعيد

الحركة دي خلت في نفوس المصريين نزعة انتقام لما شافوا إخواتهم بيتصابوا، طب ما كان سلم السفينة وخلاص، كان لازم يتسبب إن ناس كتير تموت عشان مش عايز يستسلم؟ فبدأت رحلة مطاردة الناجين من الانفجار ده، وبقى أي فرنسي يتقفش بقى يتقتل في ساعتها، كل الجنود اللي كانوا في الأسطول ده اتقتلوا، كلهم بلا استثناء، كأكبر انتصار في تاريخ المقاومة.

خلصت معركة البارود اللي بيسميها الفرنسيون في التاريخ “كارثة السفن الفرنسية”، أكبر خسارة تعرض ليها الجيش الفرنسي، ٥٠٠ ضحية ما بين ٢٠٠ ملاح و٣٠٠ جندي، ١٢ سفينة باللي فيها، السفينة إيطاليا اتدمرت، كل الفلوس والذخيرة والسلاح اللي كانوا في السفن راحت للمصريين والعرب، لحد النهاردة فيه ناس من أحفاد المعركة دي محتفظين بجزء من الأسلحة للذكرى وبيتوارثوها جيل ورا جيل.

من كتر ما كان النصر مسمّع في فرنسا، لك أن تتخيل إن نابليون اللي وقتها كان على رأس جيشه محاصر عكا، وصله الخبر ده وعيط! عيط فعلًا بالدموع بشهادة مؤرخيه! وتشاءم كمان وشاف إن دي علامة على انتصار إيطاليا عليه بعد كده، كمان تعرض للنقد من رجالته واللي بدوره اتصب على القائد “بليار”، اللي لاموه على الخسارة دي لأنه ساب قيادة الأسطول تحت الجيش ومأمنش كويس، كمان المقاومة المصرية كسبت كمية سلاح فرنسي متقدم ومدافع مكانوش يحلموا بيها، عشان تتحول النظرة الفرنسية للصعيد من “توسع” لـ”حرب وشيكة”، ويبقى مش مجرد توسع زي ما فاكرين، إنما حرب هيدخلوها سلاح ضد سلاح، فاهمني؟

شهداء معركة البارود

حاجة أخيرة، في مندرة محمد الجيلاني بحجازة، أمثلة من أسماء المدفونين هناك من شهداء المعركة وجنسياتهم:

• محمد الجيلانى القائد (السعيدات – مراكش – المغرب).
• السيد محمد أحمد السباعي (السعيدات – مراكش – المغرب).
• السيد المنصور بن الأمير سليمان (مكة – السعودية).
• عمر حسنين البشبيشي (دمياط).
• عامر عمران صقر (بلبيس – الشرقية).
• محمد علي العناني (العمريين – القاهرة).
• فراج بن السيد نور الدين (جرجا).

شايف من كل حتة إزاي؟ اللي من برة مصر واللي من جوة مصر واللي من القاهرة واللي من الشرقية، كانوا هدف واحد، وإيد واحدة، وعلى أرض مصر هنا، ساحة الجيلاني في حجازة شاهدة على اليوم ده، وأسماء شهدائها، وجنسياتهم المختلفة جنب بعض.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا