العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثاني عشر
المدرسة المشَّائية: (10) الفارابي: المعلم الثاني
“آراء أهل المدينة الفاضلة”(6)
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 11)، عن المعلم الثاني: الفيلسوف الفارابي. نواصل في هذه الدردشة بقيةَ حديثِنا عن الفارابي وكتابه: “آراء أهل المدينة الفاضلة”. ولنعرض لفلسفة الفارابي في المدن غير الفاضلة.
د. المدن غير الفاضلة ومصيرها
المدينة الفاضلة تضادها أربعة: المدينة الجاهلية، والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة:
أولاً: المدينة الجاهلية:
هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم. اعتقدوا أن غاية الحياة في سلامة البدن، واليسار (الغنى)، والتمتع باللذات، والانقياد إلى الشهوات، وأن يكون مُخلَّى وهواه (يفعل ما يشاء)، وأن يكون مُكرمًا ومُعظمًا (مشهورًا). والمدينة الجاهلية تنقسم إلى جماعة مدن، منها:
المدينة الضرورية:
التي اقتصر أهلها على الضروري من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح، والتعاون على استفادتها (نموذج الحضارة المادية بلغة عصرنا).
المدينة البدَّالة:
هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ويكون ذلك هو الغاية من الحياة (حكومة الأغنياء ومدينة التُجَّار والدرهم والدينار).
مدينة الخِسّة والسقوط:
وهي التي قصد أهلها التمتع باللذة من المحسوس والتخيل وإيثار الهزل واللعب (الملاهي) بكل وجه ومن كل نحو.
مدينة الكرامة:
وهي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مشهورين بين الأمم، أو عند بعضهم بعضًا.
مدينة التغلب:
وهي التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرُهم، ويكون كدّهم اللذّة التي تنالهم من الغلبة فقط (المدينة الحربية).
المدينة الجَماعية:
هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحرارًا، يعمل كل واحد منهم ما شاء، لا يمنع هواه في شيء أصلًا (مدينة الجماعة، أو العامة، أو الشعب).
العدل عند أهل المدن الجاهلة:
العدل قائم –عند أهل المدن الجاهلية– على قهر القوي للضعيف والقضاء عليه أو استعباده، وعلى تقسيم الغنائم حسب مرتبة كل واحد من الفئة المنتصرة. وإذا طبق العدل عندهم في البيع والشراء ورد الودائع، فإن الحافز عليه يكون الخوف لا حب العدالة.
ثانياً: المدينة الفاسقة:
هي التي عرف أهلها السعادة والله، والعقول الثواني والعقل الفعال، ولكن تكون أفعال أهلها أفعالَ المدن الجاهلية (أفعال غير فاضلة).
ثالثاً: المدينة المبدّلة:
هي التي كانت آراء أهلها، في القديم، آراء أهل المدينة الفاضلة، لكن تبدلت فيما بعد، وأصبحت آراء فاسدة. بدلوا المدينة غير الفاضلة بالفاضلة.
رابعاً: المدينة الضَّالة:
هي التي يعتقد أهلها آراء فاسدة في الله، وفي الثواني، وفي العقل الفعَّال، ويكون رئيسها ممن أوهم أنه يوحى إليه، وهو كاذب، ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور.
مصير أهل المدن غير الفاضلة:
أما مصير سكان هذه المدن فهو، في رأي الفارابي، كما يأتي: “كل نفس أدركت الحقيقة، أي علمت الأول والفيض، والعقول الثواني، والعقل الفعَّال، تكون قد اكتسبت الخلود. فاذا عملت حسب هذه الآراء كانت من الأنفس الفاضلة وخلدت في السعادة. أما إذا جهلت هذه الحقيقة فيكون مصيرها الزوال والعدم. فأنفس أهل المدن الجاهلة صائرة إلى الزوال، وأنفس أهل المدن الفاسقة تخلد في الشقاء، وأنفس أهل المدن المبدلة تزول فيهلكون بالانحلال، غير أن من بدل عليهم الأمر وكان يعلم الحقيقة، فنفسه تخلد في الشقاء، وكذلك نفس من أوهم أنه ممن يوحى إليه، أما أهل المدن الضالة فمصيرها الزوال”.
خلاصة تأويلية لرؤية الفارابي الفلسفية إلى العالم: إنسانية تحيا في ظل الله
قدَّمَ الفارابي –فيلسوف السعادة كما أحبُ أن أدعوه– رؤية أصيلة إلى الوجود: الله، العالم، الإنسان. رؤية اندمجت فيها: الميتافيزيقا والسياسة والأخلاق وعلم النفس، في منظومة واحدة: مدينة الأرض يجب أن تكون شبيهة بالمدينة الإلهية العادلة، وحاكم الأرض يكاد أن يكون صورة للأول في العالم الإلهي، وما يحدث في عالم العقول المفارقة يجب الاقتداء به في عالم الإنسان والمجتمع المدني، وما يشيده الإنسان ينبغي أن يكون على غرار ما شيده الله: إنسانية تحيا في ظل الله، وما نظرية الفيض إلا وسيلة ومنهج لتحقيق كل ذلك.
إقناع الناس بهذه النظرية والبرهنة على صحة أسسها هي مهمة المنطق، الذي أولاه الفارابي عناية كبرى للتقريب بين العقل والوحي، وبين الفيلسوف وبين النبي، فما في الملة مثالات، محاكيات، لما في الفلسفة. ولقد تحول الحاكمُ الفيلسوفُ عند أفلاطون، إلى النبي الفيلسوفِ عند الفارابي، وتحولت المدينة إلى الأمة، بل إلى المجتمع الإنساني كله. وتلكم هي إضافةُ الفارابي الكبرى، وذلكم هو إبداعُه الفلسفيُ الحالمُ الكبيرُ: حيث محاولة التقاء دولةُ النبي والخلفاء بدولة الفيلسوف والحكماء، فيتلاقى طريقُ الوحي بطريقِ العقل.
قراءة نقدية لمقاربة الحقيقة
سيظل حُلُمُ الفارابي في مدينته، كما كان حُلُمُ أفلاطون في جمهوريته، أملًا يداعب عقولَ البشريةِ على مر العصور. وقد فتح الفارابي بابَ تأويلِ الوحي على ضوء العقل. ومن حق معارضي الفارابي نقده ولكن ليس من حقهم تكفيره. وإذا كنا نريد أن نستأنف مسيرتنا الفلسفية فلننقد العقلَ بالعقل، ولنحاول –نحن المعاصرين– حل المسائل التي أخفق في حلها مفكرونا وفلاسفتُنا من قبل، لنصلَ أولَ العقلِ بآخره، في رحلة لا تنتهي –ولكنها شائقة– نحو مقاربة الحقيقة، لا الادعاء بامتلاكها امتلاكًا مطلقًا.
وبهذا يمكن أن نستأنف مسيرتنا الفلسفية في التاريخ: قراءة نقدية جادة لتراثنا، نبني على ما تم إنجازه، لا أن نهدم البناء كله، فنغترب في فلسفة أخرى غربية أو شرقية.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصلُ بقيَّةَ حديثنِا عن الفلسفة المشائية، ولنتكلم عن عبقرية فلسفية إسلامية أخرى اعتمدت رؤيةَ الفارابي الكونية وأضافت إليها نسقًا فلسفيًا موسوعيًا عالميًا، كان له أثره الكبير في الشرق والغرب اللاتيني، سنتحدث عن رئيس مدرسة المشائين: الشيخ الرئيس، ابن سينا، وكتابه “الشفاء”.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال،الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال
الجزء التاسع من المقال، الجزء العاشر من المقال، الجزء الحادي عشر
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا