مقالات

مشكلة الكواليا: الوعي والتفرد الإدراكي – الجزء الثاني

من المهم أن نلاحظ مرة أخرى –بصدد الخواص التي ذكرناها للكواليا– أنها ليست لها حالة الخواص القابلة الملاحظة، أعني تلك التي نستطيع ملاحظتها والتعبير عنها لغويًا، ذلك أن تصور الكواليا إنما يعتمد أولًا وقبل كل شيء على تعريفه.

كما أن وجود الكواليا إنما يستند على وجود الخواص التي تناسب هذا التعريف. وهكذا، فإذا اكتشفنا مثلًا خاصية كتلك التي نعبر عنها بقولنا «ما يكون مثيلًا بامتلاك خبرة معينة»، لكن هذه الخاصية كانت في الواقع معروفة لآخرين، فإنها لن تكون مما يندرج في نطاق الكواليا.

وعلى هذا، فإذا كانت الكواليا توجد بالفعل، فإن الشخص الرائي –المزود بجهاز إبصاري طبيعي– والذي يستطيع مثلًا أن يرى اللون الأحمر، لا ولن يتمكن من وصف خبرته بمثل هذا الإدراك الحسي على حقيقتها لأي شخص آخر، إنما يستطيع فقط أن يضع نموذجًا تقريبيًا لخبرته،

كأن يقول مثلًا: «الأحمر يبدو ساخنـًا»، أو أن يقدم وصفـًا للشروط التي تحدث الخبرة بمقتضاها، كأن يسترسل قائلًا: «إنه اللون الذي تراه حين يضرب عينيك مباشرة ضوءٌ له كذا وكذا من الطول الموجي».

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يعني ذلك أن اللون ككيف عقلي، أو كخاصية من تلك الخواص التي نطلق عليها اسم «الكواليا»، إنما هو خاصية فريدة ومباشرة، تـُعلن عن نفسها فقط داخل العقل الواعي، وهي بالضرورة ممتنعة التعريف بأية وسيلة فيزيائية.

ولو أردنا تعداد الحالات العقلية التي تدخل في نطاق الكواليا، لوجدنا أنفسنا أمام قائمة طويلة من الإحساسات، والمشاعر، والخبرات، والرغبات، بل والأفكار الخالصة.

ومع أن هذه الحالات ما زالت موضع خلاف وجدل بين الفلاسفة، إلا أننا يمكن أن نضمنها مبدئيًا في القائمة التالية:

  1. الخبرات الإدراكية الحسية: كتلك المتضمنة مثلًا في رؤية اللون الأخضر، وسماع صوت الجرس، وتذوق طعم القهوة، وشـّم نسيم البحر، وتحسس قطعة من الفرو.
  2. الإحساسات الجسدية: كالشعور بوخز الألم، والشعور بالحكة، والشعور بالجوع، والشعور بالحر أو البرد، وكذلك خبرة ممارسة الجنس أو الجري أو بذل المجهود.
  3. ردود الأفعال، والانفعالات، أو العواطف، كالشعور بالفرح، الخوف، الحب، الحزن، الحسد، والندم.
  4. الأمزجة، مثل الشعور بالعظمة، الخضوع، السكينة، الفظاظة، التوتر، والتعاسة.

ويضيف البعض إلى هذه القائمة خبرة الفهم لجملة ما، وخبرة التفكير المفاجئ في شيء ما، والتذكر اللحظي، وحديث النفس الداخلي، بالإضافة إلى الرغبات الفردية المختلفة، كرغبتي في أن أقرأ هذا الكتاب، أو كرغبتي في أن أقضي عطلة نهاية الأسبوع في الإسكندرية، وهكذا.

أخيرًا

تنبغي الإشارة إلى أن مصطلح «الكواليا» ما زال من أكثر المصطلحات إشكالية في الفكر الفلسفي والعلمي المعاصر، لا سيما فيما يتعلق بمدى كون «الكواليا» موجودة أو غير موجودة، قصدية أو غير قصدية، متفردة في ذاتها أو مرتبطة بحوادث المخ والجهاز العصبي.

وهكذا، فعلى حين يربط بعض الفلاسفة –كما أشرنا– بين الكواليا والمعطيات الفسيولوجية والسيكولوجية للجسد الحي من خلال مقولة التأثير والتأثر، نجد البعض الآخر وقد رفض وجودها بالمرة، مُحيلًا كافة مظاهر الوعي الإنساني إلى عمليات مادية صرفة، بينما نجد البعض الثالث وقد أقام للكواليا عالمها الخاص والمفارق لعالم الوجود المدرَك حسيًا، ومتخذًا منها نقطة انطلاق قوية لدحض نزعة الردّ الفيزيائي: ردّ العقلي إلى السلوكي والسلوكي إلى البيولوجي والبيولوجي إلى الفيزيائي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا بالإضافة إلى ما يثيره تصور الكواليا من تساؤلات تتسم إجاباتها دومًا بالغمام، وهي تساؤلات تنقلنا من البحث في ماهية اللون مثلًا إلى البحث في أنطولوجيا الحالات العقلية برمتها، ومن البحث في الإدراك اللوني إلى البحث في طبيعة الوعي، وفي مشكلة العلاقة بين العقل والجسد بصفة عامة،

فعلى سبيل المثال، هل ثمة وجود لخبرات ذاتية يكابدها المرء دون أن يتمكن من الإفصاح عن طبيعتها؟ وهل يعني ذلك وجود عوالم عقلية ذاتية مختلفة يصعب الربط بينها على خلفية الأساس المادي للجسد؟

وما هي ماهية التخم الفاصل بين العقل كوعاء لتلك الخبرات، والمخ كحامل لميكانيزمات حدوثها؟ وهل ثمة تمثيل ممكن بين العقل والمخ من جهة، وعتاد الحاسب الآلي Hardware وبرمجياته Software من جهة أخرى؟

لا شك أن الإجابة عن هذه التساؤلات، أو بعبارة أدق تناولها فلسفيًا، يتجاوز نطاق هذا المقال، وإن كانت ثمة متعة للاسترسال في تأملها على درب التأمل في الإبداع الإلهي في الخلق: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» (النمل: 88).

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سيمفونية الإدراك وسؤال «مولينو» المُحير!

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة