مقالات

مشاهد متفرقة في المستشفى!

 

مشهد (1)

مريضة تخرج من غرفة العمليات بعد إجراء عملية جراحية تطلب إجراؤها تخدير المريضة تخديرا كليا، أي أن تكون فاقدة للوعي تماما.

تخرج لغرفة الإفاقة ليتأكد طبيب التخدير أن المخدر الذي أعطاه لمريضته لم يُسبب لها أي مشكلة، وأنها أفاقت والحمد لله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تبدأ المريضة في الإحساس بالألم جراء جرح العملية الجراحية، وتصرخ منه وتتمتم ببعض الألفاظ والكلمات: الحقوني، مش قادرة، تنادي على شخص ما، يعلو صوتها بالنداء تارة والصراخ تارة، لا تستطيع الوقوف على قدميها، لا يزال تأثير المخدر بشكل ما موجود.

هي في حالة ليست فقدان كامل للوعي، ولا الإفاقة الكاملة، حالة بين بين..

أين يكون المرضى وهم في هذه الحالة يا ترى؟ ماذا يجول بخاطرهم ؟ هل يجول بخاطرهم شيء ما؟ لماذا تنادي مريضتنا على شخص بعينه؟ هل تفكِّر ؟

أي عالم ذلك الذي يحويهم وهم في هذه الحالة وحدهم ربما لا يشعرون تماما بعالمنا المادي، لا يسمعون أصواتنا بوضوح ولا يروننا بوضوح، أين يكونون؟

ربما فقدوا القدرة على التقاط الأصوات والألوان والأشكال بشكل ما مؤقتا، ربما غابوا عن عالم الحواس مؤقتا، لكن تظل ذاكرتهم ومخيلتهم تحوي الكثير من الصور ربما كانت إحداها الشخص الذي نادت عليه مريضتنا، كذلك لم يفقدوا عقولهم، لكن أي أفكار تدور بخلدهم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لست أدري!

يُهيأ إليَّ أنهم إذا كانوا قد فقدوا القدرة على التحكم في اختيار أفكار معينة يتأملونها، كما تفعل أنت حينما تقابلك مشكلة ما فإنك تعمل فكرك فيها لتصل لحلها، ربما فقدوا ذلك الاختيار مؤقتا إلى أن يستعيدوا الوعي، لكنهم يعيشون في الأفكار والتأملات والقناعات والمكتسبات التي حصَّلوها حينما كان لديهم ذلك الاختيار.

يعيشون مع ما توصلوا إليه من قبل، مع نفوسهم بما زرعوه فيها، مع ما اختاروا حينما امتلكوا القدرة على ذلك أن يكون أنيسهم في وحدتهم وعالمهم الذي لا يشاركهم فيه أحد!

ربما لو زرعوا نفوسهم معتقدات صحيحة وخيرة وفضائل وقيم نبيلة، وجدوا أثر ذلك في عالمهم، ربما لو كان الحق أنيسهم وقت الاختيار فلا أظنه سيتخلى عنهم حينما يفقدون ذلك الاختيار!

أين نتواجد في تلك الساعات أو اللحظات؟ الله أعلم!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مشهد (2)

مجموعة من المرضى في إحدى غرف المستشفى، كل منهم على سريره يتحدثون فيما بينهم، يتناولون في حديثهم كل ما قد يخطر ببالك، الزوج والأولاد والأحفاد والبيت الذي تركوه ليكونوا نزلاء الغرفة معا غير أن أرواحهم لم تترك البيوت!

التاريخ المرضي لكل منهم وكيف كانت الرحلة الطويلة مع المرض، تارة يتندرون على مواقفهم مع الأطباء والمستشفيات والممرضات وتارة يتألمون، لكنهم يتألمون جميعا!

يبدون وكأنهم في حواراتهم جزء من سيمفونية أو لحن متناغم ومتناسق، يعزفون جميعا على نفس الوتر، يضحكن معا ويبكون معا وكأنهم واحد!

أمر غريب حقا، كيف أمكن جمع نفوسهم قبل أجسادهم بهذا الشكل؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما لو تأملنا بعضنا بعض، لو تأمل كل منا الآخر لوجدنا أن ما يجمعنا يفوق ما يفرقنا، وأن ما نشترك فيه أكثر كثيرا مما نختلف حوله وأننا جميعا كنزلاء تلك الغرفة، غير أنها أوسع قليلا!

بينما هم منهمكون في حواراتهم، تدخل سيدة إلى الغرفة وتبدأ في الحديث: بنلم فلوس لواحدة غلبانة مريضة فلوسها ضاعت ومش لاقية حق العلاج.

ما أن أنهت السيدة حديثها حتى تسابقوا جميعا كل منهم إلى حقيبته ليخرج”اللي ربنا قدره عليه” في مشهد يستحق التأمل، يتعاطفون مع المريضة التي فقدت نقودها ويشفقون عليها من وطأة المرض بعدما زاد عليه الفقر والعوز أيضا ويسرعون لانتشالها من ذلك البئر بما يستطيعون تقديمه!

أين يختبئ هذا العطف والإحساس بالغير والرغبة في مساعدته في مجتمعنا الذي انتشرت فيه الجرائم والسرقات والنهب والقتل والظلم بكل أشكاله؟

وهل يا ترى حين يخرج مرضانا من غرفتهم ليعودوا إلى بيوتهم أصحاء معافين قد عاد إليهم الإحساس بالقوة ونسوا إحساس الضعف الذي عاشوه، هل نجد منهم أيضا ذلك التعاطف والتراحم؟ أم أننا في المواقف التي تذكرنا بضعفنا واحتياجنا- وهي حقيقتنا التي نغفل عنها- نكون أقرب لإنسانيتنا، وتتسع أرواحنا قليلا لتشمل غيرنا ولا تضيق بنا نفوسنا وتعمينا أنانيتنا ؟

ربما لو ذكرنا أنفسنا دوما بحقيقة ضعفنا واحتياجنا لغيرنا وعجزنا لانقشعت قليلا غيوم الأنانية والتمركز حول الذات ونسيان الآخر!

مشهد (3)

طبيب مقيم بالمستشفى يبدو عليه الإرهاق الشديد يدخل إلى إحدى غرف المرضى، تبدأ مريضة بسؤاله عن سبب تأجيل إجراء العملية الجراحية التي كان مقرر إجرائها لها، فيجيبها بأنها تعاني من بعض المشكلات في عضلة القلب وتحتاج لعلاجها أولا قبل أن تدخل غرفة العمليات حتى لا يشكل ذلك خطرا على حياتها.

يبدو كلاما منطقيا لا تشوبه شائبة، خاصة وأن المريضة فعلا تتناول دواء من أدوية القلب ولديها تاريخ مرضي بمشكلات في القلب.

تبدأ المريضة بالتذمر والصراخ على الطبيب.

يرد عليها الطبيب: يا حاجة أنا بقالي ست أيام ما نمتش، سيبيني أشوف شغلي.

يعلو صوتها: أنا قلبي أحسن من قلوبكم كلكم!

ستة أيام عمل متواصل دون راحة! هالني الرقم!

كيف لإنسان أن يتحمل ذلك؟  كيف يتمكن من التركيز في أداء عمله وبصفة خاصة إذا كان عمله يتطلب إجراء عمليات جراحية دقيقة؟

أتذكر في إحدى المظاهرات التي قام بها الأطباء في بريطانيا للمطالبة بتحسين أوضاع عملهم كانت إحدى اللافتات التي جذبت انتباهي مكتوب عليها:tired doctors make mistakes “”  الأطباء المرهقون يرتكبون أخطاءً!

بالتأكيد هناك خطأ في هذا النظام الذي يطالب الطبيب بأن يعمل أياما متواصلة  بلياليها دون راحة ثم يكون دقيقا جدا في عمله ولا يخطئ، فضلا عن واجبه في تحمل أسئلة المريض واعتراضاته ومراعاة وضعه النفسي في حالة المرض!

بعد ذلك بقليل، تدخل إحدى الموظفات في المستشفى، إدارية بعيدة عن الطب، نتجاذب أطراف الحديث ليصل بنا الحوار إلى أن تقول لي: الدكاترة هنا محترمين جدا، وبيتعبوا جامد، أنا فعلا ماكنتش أعرف تعبهم ده غير لما اشتغلت هنا وشفت بنفسي، لكن للأسف الناس ما بتقدرش!

ذكرتني جملتها “الناس ما بتقدرش” بموقف المريضة.

لماذا تتضخم مشكلاتنا بداخلنا للحد الذي يحجب عنا رؤية مشكلات الآخر أو رؤيته هو شخصيا فنذوب في عالمنا ونبدأ في عقاب الجميع على ما نمر به من صعاب؟  لماذا اندفعت المريضة بالصراخ على الطبيب رغم ما يبدو عليه من الإرهاق الشديد ومصارحتها بذلك في الوقت الذي لم يرتكب فيه خطئًا من الأساس؟ هو فقط يحاول حمايتها! ولماذا لا يصبر الطبيب قليلا على مريضته؟ ربما أثرت فيها نبرة صوت أكثر هدوئا وتفهما لحالها..

الصبر من الفضائل الجميلة فعلا، تعيننا على تجاوز الأزمات والتفكير بهدوء بدل الاندفاع وراء الغضب السريع أو لوم الآخرين دون ذنب لهم.

ومراعاة الآخر حتى في عز الأزمات من شيم النفوس النبيلة.

ربما لو دربنا أنفسنا على الخروج من حيز الذات الضيق وعدم تضخيمها لوجدنا براحا بداخلنا يسع الآخر أيضا..

ربما لو تعلمنا أن نصبر قليلا لواجهنا أزماتنا بحكمة أكثر..

ختاما، في المرة القادمة التي تدخل فيها المستشفى- وأرجو ألا يحدث ذلك – لاتنسى دفتر مذكراتك!

 

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة