إصداراتمقالات

مجتمعنا وفتن حول النص الدينى (1)

تدور في مجتمعاتنا الآن وفي بعض الفضائيات مجموعة من الحوارات حول بعض النصوص الدينية، أدت إلى إثارة الكثير من الأسئلة؛ التي تحتاج إلى إلقاء نظرة عقلية عليها. وتعتبر النصوص والأخبار المنقولة عموما سواء كانت دينية أو تاريخية أو غيرها؛ أحد أدوات المعرفة البشرية، والتي لعبت ولا زالت دورا هاما في تطور العلوم البشرية على مر التاريخ. ونتعامل في حياتنا اليومية باستمرار مع كثير من النصوص والأخبار المنقولة لنا سواء بشكل مسموع أو مكتوب، وسواء في الأحداث الجارية أو السابقة، وفي مجالات كثيرة: رياضية وثقافية وسياسية وغيرها الكثير.

وكأي خبر منقول لعقولنا؛ يستتبع ذلك عددا من الأسئلة التي تتناول حجية هذا الخبر كأداة للمعرفة. مثل: سؤال الصدور وسؤال الدلالة.

فعندما أخبرك أن أحدهم قد قال عنك كلاما ما؛ فإن الأسئلة التلقائية التي تثيرها القوة العقلية في هذه الحالة هي: هل قال فلان ذلك فعلا؟ وهو سؤال يسأل عن صدق النقل وحجيته أي إذا ما كان الخبر أو العمل صدر فعلا، ولذلك فهو سؤال عن الصدور. وإن كان قاله فما الذي قصده بالتحديد؟ أي ما هي دلالة هذا الكلام؟ إذ أن الكلام المنقول قد يحمل أوجها ودلالات مختلفة.

وكل سؤال من هذين قد تكون الإجابة عنه يقينية أو ظنية، فالنص أو الخبر قد يكون صدوره يقينيا أو ظنيا، ودلالته يقينية أو ظنية. واليقين هو الجزم التام دون وجود احتمال آخر، أما الظن فيظل هناك احتمال ولو ضئيل أن يكون العكس هو الصحيح. ونضيف إلى ذلك أن هناك مسائل يستطيع العقل حسمها وحده، وتسمى بالكليات. فالعقل وحده يعرف مثلا حاصل جمع أربعة زائد أربعة. وهناك أمور يحتاج العقل فيها إلى الاستعانة بأداة معرفية أخرى، وسنسميها بالجزئيات. فمثلا لكي تعرف اسم المولود الجديد في عائلتكم فلا بد أن ينقله إليك شخص أو أشخاص من العائلة، وإذا أردت أن تعرف شكله فتحتاج لاستخدام الحواس، وهكذا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومن بين الأخبار والنصوص المنقولة إلينا يحتل النص والخبر الديني أهمية خاصة، ذلك أنه يتعامل مع بعض أهم الأسئلة التي يواجهها الإنسان في حياته، وهي الأسئلة الوجودية: من أين؟ وإلى أين؟ وفي أين؟ فهذا النص يتعامل مع معتقدات الإنسان عن الكون والوجود، وهي معتقدات لا يحتمل فيها الشخص العاقل الظن أو الشك.

كما أنه يحمل كثير من الأوامر والتكليفات وأسلوب معين للحياة والتزامات معينة؛ تغير شكل حياة المؤمن به وتتدخل في كل أمور حياته من زواج وعمل وغيرها. باختصار فإن هذا النص يتعامل مع العقائد والتشريعات، مع وضوح ما لهما من أهمية قصوى للفرد وللمجتمع. ولذلك فلهذا النص أو الخبر أهمية قصوى.

وعندما نتناول في كل من العقائد والتشريعات الأسئلة السابقة: سؤال الصدور وسؤال الدلالة؛ نجد لدينا عددا من الأسئلة عن النصوص الدينية تحتاج لإجابة. السؤال الأول خاص بصدور النصوص العقائدية، وحيث أن هذه النصوص تتناول مسائل الاعتقاد ورؤية الإنسان للكون وللوجود وللخالق؛ فلا يقبل العقل فيها الظن، فيجب أن تكون النصوص التي سيعتقدها الإنسان يقينية الصدور.

والنصوص قطعية أو يقينية الصدور هي الواصلة إلينا عن طريق التواتر الذي يستحيل معه الكذب، وهي في الإسلام على صنفين: القرآن الكريم وأحاديث التواتر. السؤال الثاني خاص بدلالة النصوص العقائدية، وحيث أن المسائل العقائدية على قسمين: قسم هو الكليات التي يستطيع العقل وحده أن يجد لها إجابات مثل: هل الله موجود؟ فالبراهين العقلية على ذلك كثيرة. وقسم آخر هو الجزئيات التي لا يستطيع العقل وحده أن يجيب عنها مثل: هل الذين يعملون الصالحات ثوابهم قصور أم أشجار أم غير ذلك؟ وكيف سيكون الحساب؟

والكليات أو المسائل التي يستطيع العقل أن يبحث فيها وحده؛ أهمها ثلاث مسائل: وجود الله ووحدانيته، وجود النبوات والرسالات، وجود السعادة والشقاء الأخروي. وهذه الكليات هي التي يستخدمها العقل الباحث عن الدين الصحيح، فإذا أثبت العقل وجود إله ثم وجد دينا فيه نص قطعي الدلالة يخبره أنه لا يوجد إله مثلا فهو يرفض هذا الدين، وهكذا. فالدين الصحيح هو ذلك الذي تكون نصوصه الاعتقادية يقينية وقطعية الصدور والدلالة ومتوافقة مع هذه الكليات العقائدية المثبتة عقلا بالبرهان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والقرآن نفسه يدعو المؤمنين به إلى تجنب الظن والتقليد في العقائد في مواضع كثيرة: ” إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا”، ” أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ”.

أما الجزئيات أو الأمور العقائدية التي لا يستطيع العقل حسمها وحده؛ فإنه يأخذها من هذا الدين الذي أثبت صحته، وعند أخذها منه فإنه يراعي في نصوص الاعتقاد أن تكون قطعية الصدور والدلالة كما سبق. وإن لم تكن كذلك فلا يمكن الجزم بها.

أما في نصوص التشريعات فإن كانت في الأمور الكلية فإنها أيضا مساحة بحث للعقل، مثل الأمر بالعدل، فهو أمر كلي يبحث فيه العقل ويوجبه، ويستخدمه أيضا في البحث عن الدين الصحيح، الذي يستحيل أن يأمر بالظلم.

أما التشريعات الجزئية في الدين الذي أثبت العقل صحته؛ ومنقولة إلينا بشكل قطعي الصدور والدلالة فيجب قطعا تنفيذها وتطبيقها. أما إن كانت ظنية الصدور والدلالة فإن العقل يسعى لوضع قواعد يقينية لاستنباط الأحكام منها، إذ أن الظن والتقليد يؤخذ بهما في العمل عند العقل على عكس الاعتقاد. وقد اهتم علم أصول الفقه بقواعد استنباط هذه الأحكام من تلك النصوص، وبشكل عام يستحيل أن تخالف هذه الأحكام الكليات العقلية التشريعية الثابتة مثل وجوب العدل وحرمة الظلم، ويستحيل أن تخالف التشريعات قطعية الصدور والدلالة.

بعد ذلك تكون للنصوص ظنية الصدور حجة في العمل بها إن كان صدورها من ثقات، كما تصبح الدلالة الظاهرة أيضا حجة. ومعنى الحجة هنا هي أنه يجب الأخذ بها فقد قامت الحجة على المُبلغ بها، وإن تركها فيأثم، ولذلك تفصيلات في أصول الفقه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لذلك وباختصار فإن كثيرا من الدوامات التي يدور فيها البعض سببها عدم التمييز بين النصوص العقائدية والتشريعية واختلاف التعامل معهما، ولأن البعض لا يفرق بين قطعي الصدور والدلالة وبين الظني، ولأن البعض لا يفرق بين الكليات وبين الجزئيات. ويرجع ذلك كله إلى غياب العقلانية في التفكير وغياب المنهج المعرفي السليم، وتراجع العلوم العقلية في مجتمعاتنا.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة