إصداراتمقالات

ما فى الفصل من توفيق

ما فى الفصل من توفيق

هو الطريد من مُلك الأرض، المحروقة كتبه، الطريد من مملكة السماء تطارده لعنات قساوسة عصر الظلمات، الطريد من تراث الغرب بعد أن أرشده، الطريد من عقول مريديه الذين أساءوا فهمه.

هو الموفق بين المختلفين؛ أو من تُوهم اختلافهم، المعترف بكل الطرق إلى الحق مع إعلانه وحدة هذا الحق وثباته، ضاربًا مثلًا علميًا وعمليًا حقيقيًا في قبول رأي الآخر، فوفق بين المذاهب وبين الأدوات المعرفية.

هو ابن رشد؛  في فصل مقاله مقال يستحق النظر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بدأه في توفيق بين أداة النص وأداة العقل، مستدلًا بكل منهما على الأخرى، وناسجًا لأطر العلاقة بينهم على أجمل وجه، جازمًا بأنهما لا يخالفان بعضهما بل يتوافقان فيستدل بالنص على النظر العقلي؛ قال تعالى:فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”:فيراه نصًا على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً. وقال تعالى: ” أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ”: ففيه الحث على النظر في جميع الموجودات.” وقال تعالى:” أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ” وقال ” وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ” إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا تحصى.

فقد حث الشرع على النظر في الموجودات واعتبارها، وذلك في أكثر من موضع في القرآن لأنها تدل على صانعها. والفلسفة ما هي إلا النظر في الموجودات واعتبارها لمعرفة الصانع. والمنطق هو الاعتبار في الأشياء بمعنى الانتقال من المجهول للمعلوم.

ويضيف أن لما كان كلاهما حق فإن التعارض بينهما غير ممكن؛ فحيث أن هذه الشريعة حق وتدعو إلى النظر المؤدي إلى الحق؛ فإننا نقطع باستحالة مخالفة الحق للحق، بل يوافقه ويشهد له. فالتعارض بينهما مستحيل.

وإذا خالف البرهان ظاهر اللفظ فإنه موافق لا محالة لباطنه المستدل عليه بالتأويل، ويعرف التأويل بأنه: إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز.

ولا يشك مسلم في وجود آيات في القرآن تستوجب التأويل وما أعظم ازدياد اليقين عند الوصول للمعنى الحقيقي بالتأويل. فأجمع المسلمون على التأويل وإن اختلفوا في المؤول.ولا يوجد منطوق في الشرع مخالف ظاهره للبرهان إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجدت في ألفاظه ما يدل على ذلك التأويل أو يقارب أن يشهد، وسبب ورود ظاهر وباطن في الشرع هو اختلاف أفهام الناس.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والسبب في ورود الظواهر المتعارضة في الشرع (المتشابهات) هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ” إلى قوله: ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ” لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان ما يتميزون به كما ذكرت الآية. وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحصل من الإيمان الذي يكون بالبرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل، فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان بغير برهان.

فالله تعالى أخبر أن لها تأويلًا وهو الحقيقة، والبرهان لا يؤدي إلا إلى الحقيقة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات (التي خص الله العلماء بها) إجماع. لأن غير أهل البرهان سيأخذونها على ظاهرها وسيأخذها الراسخون في العلم على الباطن فلن يحدث إجماع.

ويوفق بين طرق التصديق جميعها؛ فقد دعت الشريعة إلى السعادة عن طريق معرفة الله وذلك بثلاثة طرق: (البرهان والجدل والخطابة) لاختلاف الناس بين هذه الوسائل الثلاثة في التصديق فخاطبت كل منهم على قدر عقله: ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ “.فلذلك كان الإسلام مخاطبا للجميع (الأبيض والأسود والعربي والأعجمي) لأنه يجمع بين كل طرق الإقناع. فالخطابة يفهمها العامة والجدل أعلى درجة من الخطابة، والبرهان هو الأعلى درجة وهو وحده المؤدي لليقين المبني على الدليل.

وقد وجب أن يكون الشرع يشتمل على جميع طرق التصديق وطرق التصور وذلك لأن:الشرع مقصوده تعليم الجميع، ووقوع التصديق بالخطابة أكثر شيوعا في الناس يليه الجدل ثم يليه البرهان لأقل الناس، ومقصوده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال تنبيه الخواص.

واستطاع  تحقيق توفيق بين جمهور العلماء وإجماعهم وبين من خالفهم، إذ يوضح أن البعض يقول بعدم جواز تأويل ما أجمع المسلمون على ظاهره، وعند التأمل نجد شروط الإجماع التام :أن يكون ذلك العصر محصورًا وجميع علمائه معلومون عندنا، وأن ينقل إلينا رأي كل منهم في المسألة نقلًا صحيحًا وبالتواتر، وأن يكون كل هؤلاء العلماء متفقين على عدم وجود ظاهر وباطن للشرع فلا يكتمون رأيهم عن العامة (وهو شرط غير موجود لما روي عن السلف الصالح بوجود تأويلات يجب ألا يفصح بها إلا للراسخين في العلم)، وأن يتفقوا على أن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة (جدلي أو خطابي أو برهاني).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وذلك يستحيل كما هو واضح في علوم الشريعة بينما يجوز في العلوم العملية حيث لا يكتم العلم ولا يوجد له باطن.

ثم يوفق بين المتكلمين والفلاسفة في مسائل الخلاف الكبرى التي كانت داعيًا للتكفير عند أبي حامد، فيقول في العلم الإلهي أن ما قد أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم.

بينما يقول في مسألة قدم العالم؛ فالمذاهب ليست تتباعد كي يكفر بعضها بعضًا، وقد ظن المتكلمون أن المذهبين متناقضان، وكان ذلك سبب التكفير، وقد بين ابن رشد أنهما ليسا متناقضين كما ظنوا بل إنهما قريبان.

ثم يستطيع ان يحقيق توفيق  بين المجتهدَيْن الذين اختلفا؛ “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا، أخطأ فله أجر”. وأي حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود بأنه، كذا أو ليس بكذا. وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله بالتأويل. وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها.فالعالِم الذي عرضت له شبهة فأخطأ فهو معذور.أما الخطأ الذي يقع من غير ذوي العلم فهو إثم محض، وصفات العالم الحق هو علمه بأصول علمه وعلمه بكيفية أو طريقة الاستنباط من هذه الأصول.

ثم يبرز ابن رشد ما سماه مبادئ الشريعة ؛ وهي الأشياء في الشريعة التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها (البرهان والجدل والخطابة أي أصول الشرع الثلاثة)، فتكون معرفة ذلك الشيء ممكنة للجميع. وأمثلة ذلك: الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية، والشقاء الأخروي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذن فشروط عذر الخطأ هي:أن يكون الشخص عالمًا (وشروطه كما تقدم) وأن يكون الاجتهاد فيما ليس من أصول الشريعة (أي فيما يتعذر إدراكه إلا بالبرهان).فإن أخطأ فهو معذور لا ملعون!

ويختم بكيفية التوفيق بين الحكمة والشريعة في التأويل، ورفع بدعة التصريح بالتأويل في الجزئيات بعد أن أوضح الكليات، فيقول إن الراغب في ذلك عليه أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شئ شئ مما كلفنا اعتقاده.ويجتهد في نظره ظاهراً ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً إلا إذا كان التأويل ظاهراً بنفسه أعني ظهوراً مشتركاً للجميع.

فالأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز:لا يوجد أتم إقناعاً وتصديقاً للجميع منها. وتقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهى إلى حد لا يقف على التأويل فيها -إن كانت مما فيها تأويل- إلا أهل البرهان. وتتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق عن طريق المتشابهات.

ونختم على التأكيد بأن توفيق ابن رشد ليس معناه تمييع الحق أو القول بأن مذهبه لم يقع على الحق، بل إنه ينتصر للحق المطابق للواقع المستدل عليه بالعقل البرهاني في أيما موضع، مع إظهاره لما أخطئ فيه غيره من أصحاب المذاهب الأخرى، لكن اختلافه معهم هو اختلاف العالم الحكيم، فيضع الاختلاف موضعه الحق دون أن يزيد، اختلاف الكريم مع خصومه، الرحيم بالعوام.

رحم الله الفيلسوف الطريد.

 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة