مقالات

لماذا لا ينتصر أهل الحق؟

أولًا: من قال إنهم على حق؟!

من المفاهيم التي تم تشويهها هو مفهوم الحق، فالبعض يتبع ما وجد عليه آباءه، أو ما وجد عليه من يثق بهم، أو ما تتوافق عليه الأغلبية التي تُغيّر رأيها كل حين، أو ما يوافق أهواءه ومصالحه؛ ثم يدّعي أنّ هذا هو الحق!

وطريقة الوصول للحق ليست هكذا، بل لا تكون إلا بالبرهان، أي بالانطلاق من مقدمات يقينية ومطابقة للواقع، للوصول لنتائجٍ حق ويقينية ومطابقة للواقع!

والذي يقوم بهذا الانتقال هو العقل، الذي يعمل وحده في الكليات، ويستعين بالأدوات المعرفية الأخرى كالحس والتجربة في الماديات، وبالنص الديني الصحيح في جزئيات العقيدة والتشريع، وذلك بعد أن يثبت صحتهم ويقوم بفهم المعلومات التي ينقلونها له، ويصدق بها، ويستعملها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثانيًا: ما معنى النصر؟

النصر هو غلبةٌ ما لطرف على آخر، ولذلك لا بدّ من أكثر من طرف، أي لا بدّ من كثرة متنازعة، وسبب تنازعها هو اختلاف إراداتها.

والجهات المتنازعة قد تكون قوى النفس المختلفة، مثل تنازع القوة العقلية في الإنسان مع شهوته وغضبه، فالغضب والشهوة موجودان في الإنسان لحفظ جسده، لكن رغباتهم أحيانا تتعارض مع العقل، وهو ما يجعل للإنسان اختيارات متنوعة تميزه عن كثير من الكائنات، وتجعله في اختبار أيضًا. وقد تكون الجهات المتنازعة نفوسًا متعددة، وأشخاصًا مختلفين.

وقد تتعلق الإرادات بشيء مادي، وتتحرك النفوس والأجساد لتحقيق هذا الأمر المادي، فيكون النصر ماديًا. وقد تتعلق بأمرٍ معنوي، فيكون النصر معنويًا. وذلك لتعدد قوى النفس بين قوى طالبة للكمالات المادية كالشهوة والغضب، وأخرى طالبة للكمالات المعنوية وهي القوة العقلية.

وهناك علاقة ما بين الجانب الجسدي المادي، وبين الجانب المعنوي بالتأكيد، وبين النصر المادي والمعنوي بالتأكيد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 فالمادي مطلوب كوسيط أحيانًا للوصول للأمور المعنوية، كما أن الجانب المعنوي يتكامل عن طريق التحكم في الجانب المادي. فالعلم العقلي يكتسب عن طريق المرور بالإدراكات الحسية أولًا، كما أن نيل بعض الكمالات الأخلاقية يحتاج إلى أعمال جسدية ومادية.

وعندما نقوم بنشر العدل مثلا فإن هذا يتحقق بأسباب بعضها معنوي وبعضها مادي، وبانتصارات بعضها معنوي وبعضها مادي.

ثالثًا: ما الغاية من الوجود الإنساني؟

ليس غاية الوجود الإنساني النصر لذاته.

غاية الوجود الإنساني هي الوصول لأقصى ما يمكنه من كمال، وكمال الإنسان يكون بتحقيقه العدل بين قوى نفسه المختلفة، وتحقيق العدل في المجتمع؛ لأن وجوده لا يتم إلا بالاجتماع. ولكليهما تأثير في الآخر، فلا يتكامل الفرد أقصى كمال له إلا بتحقيق تكامل المجتمع، وتحقيق تكامل المجتمع والعدل فيه لا يكون إلا بعد تحقيق درجات من الكمال في نفوس المجتمعين. وإن كانت البداية تكون بتكامل الأفراد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إلا أن كثيرين يغترون بالكمالات الوهمية الشهوية والغضبية، وينسون كمالهم الحقيقي الذي يؤدي إليه العدل. أما من يستدل على تكامله الحقيقي بالبرهان ويصل للحق، تصبح غايته ووسيلته هي العدل.

وعندها تتنازع الإرادات المريدة للعدل مع تلك الطالبة للظلم الذي يوفّر لها ما تعتقد وهمًا أنه كمالها. إلا أن الفئة الأُولى نصرها هو تحقيق العدل في نفوسها قدر استطاعتها، ثم تحقيق العدل في المجتمع بالفعل؛ أو قدر استطاعتها طبقًا لظروفها الزمانية والمكانية المتاحة؛ أي على الأقل تُجهّز لتحقيقه فيما بعد.

فهؤلاء معركتهم الأولى ونصرهم الأول هو على أنفسهم، ولا يتحقق النصر الخارجي الصعب في هذه الحالة-لاحتياجه التجرد عن المادة ومواجهة الظلم-إلا بعد تحقيق قدر ما من النصر الداخلي، ثم بعد ذلك يكون نصرها في الخارج هو حسب استطاعتها طبقًا لظروف الزمان والمكان، وقد تعمى أبصار أهل المادة عن هذه الانتصارات وقوتها وتراكمها فتبهتهم فجأة.

والنصر على النفس وفي المجتمع قدر الاستطاعة؛ يؤديان بالإنسان لسعادته الحقيقية في هذه الحياة وما بعدها، أي السعادة واللذة الناتجة عن التكامل والعلو الحقيقي.

ولأن العدل في المجتمع لا يكون إلا بقبول عددٍ كافٍ من أهل هذا المجتمع له ولتحقيقه، فلربما لا يُوفّق أهل الحق في تحقيق غايتهم إلا بعد وقتٍ ما، يعملون فيه على تحقيق انتصارات صغيرة متتالية في أنفسهم، وأيضا بتبصرة آخرين بكمالهم الحقيقي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولذلك فانتصارات أهل الحق الحقيقية تبدأ بنشر العلم الحق والتربية الخيرة. وكل إنسان يتعلم حقًا أو يكتسب خلقًا خيّرًا؛ هو انتصار لمعسكر الحق لا يمكن قياسه بثمن مادي! وبزيادة هذه الانتصارات ينعكس جمالها حتى على العالم المادي في النهاية.

فانتصارهم في النهاية حتمي. يمكن الاستدلال عليه بالعلو الطبيعي للعقل على النفس والمادة. ويمكن الاستدلال عليه باستحالة العبثية في الكون ووجوب الغائية، والتي يمكن الاستدلال عليها بطريقتين: النظر في المخلوقات، فنجد لأكثرها أو كلها غايات، وما كان أكثريًا أو دائميًا يستحيل أن يكون صدفةً كما هو معروف حتى في العلوم التجريبية.

أو بالنظر صوب مصدر الوجود وخالقه، المثبت له بالبرهان الكمال المطلق، فتثبت له الحكمة في كل فعل، فيستحيل أن يكون الوجود الإنساني عبثيًا لن يحقق غايته التي خلق من أجلها. ولمعرفة الغاية التي خلق من أجلها ننظر لما يميزه عن غيره ممن يتشابه معهم، فنجده العقل الدال على الحق والعدل. فالغاية من وجود مخلوق ما بعينه هو ما يميزه عن غيره لا ما يشترك معهم به، وإلا كان وجوده بعينه أو وجود ما يميزه عبثًا زائدًا، وقد ثبتت استحالة العبث هنا.

رابعًا: لماذا ينتصر أهل القوة المادية دائما؟

إن التعميم بـ(دائمًا) واضح البطلان، فالتعميم لا يكون صحيحًا إلا بشروطٍ صارمة، والحوادث التاريخية الهادمة لتلك المقولة كثيرة.

ولا ينتصر أهل القوة المادية الباطلة إلا بسبب غفلة أهل الحق عنهم، أي إنّ انتصار الشهوة والغضب والمادة سببه غياب العقل والحق، لكن متى قام العقل وأخذ زمام المبادرة فهو المنتصر حتمًا كما سبق، على مستوى النفس، وعلى مستوى المجتمع، لكن مستوى المجتمع يحتاج اتخاذ العقل للزمام فيه زمنًا أطول وعملًا أكثر كما سبق.

خامسًا: إذن لماذا يتأخر النصر؟

على المستوى الشخصي بسبب الجهل والغفلة، الجهل على مستوى الإدراك. والغفلة والكسل على مستوى العمل والسلوك؛ واللذان يسببهما استسلام الإنسان لشهوته وغضبه في سلوكه.

أما المستوى الاجتماعي فهو مجموع الأفراد، فيحتاج أيضا لاستعلاء العقل في مقام العلم والعمل، وذلك كما سبق بتعليم عددٍ كافٍ من المجتمع بالحق، وتربيتهم على العدل، وبعدها يكون النصر حتميًا وبسيطًا.

وأخيرًا الحق لا يحتاجنا، لأنه حقٌ في ذاته سواءً اتبعه الناس أم لا، والحق بهذا المعنى لا ينتصر ولا ينهزم أبدا، بل من يتبعه ينتصر حتى ولو على مستوى نفسه وبعض المجتمع، ومن يتركه ينهزم ولو على مستوى نفسه وبعض المجتمع. وغلبة أهل الحق حتمية في النهاية كما سبق.

فنحن من نحتاج الحق لأن فيه كمالنا ونجاتنا في هذه الحياة وما بعدها، وفيه سعادتنا الحقيقية كلها.

اقرأ أيضاً:

العقل الجمعي .. التجرد وطريق الخروج

التنين بين الظن واليقين .. هل الظن وحده يكفي؟

في عالم آخر … كاد أن يُودي بعلاقتهما الغضب

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة