مقالات

فيلم الجوكر – لماذا انتحر الجوكر؟ هل هي صدفة؟

من منا لا يعرف الجوكر ؟

تلك الشخصية المعروفة من فيلم باتمان، ذلك المجرم المجنون الذي ينتشي بالجريمة لمجرد الجريمة بلا غاية محددة هذه الشخصية الغريبة التي جسدها الممثل الأسترالي هيث ليدجر والذي تأثر كثيرا بمكنون شخصية الجوكر، وأثرت جوهر الشخصية على تصرفاته وردود أفعاله التي أصبحت غريبة جدا، فعاش في أواخر أيامه بين الخمور والمواد المخدرة ليستيقظ العالم على خبر انتحار الممثل الأسترالي بسبب جرعة مخدرات زائدة أدت إلى الوفاة.

والسؤال هنا هل موت الجوكر محض مصادفة؟ هل كل نسب الانتحار المتزايدة في العالم محض مصادفة؟

شخصيا لا أعتقد ذلك، أعتقد أن هذه الظاهرة تنبئ بالكثير وإنها كظاهرة اجتماعية خطيرة تستحق منا التأمل والدراسة لعلنا نصل إلى الأسباب الحقيقية وراء هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر الاجتماعية والأخلاقية السيئة في المجتمع الإنساني اليوم وأعتقد أننا لدراسة هذه الظاهرة نحتاج إلى طرح السؤال منذ البداية، أعني هل سبب الظاهرة ذاتي أم موضوعي إن كان ذاتيا فنحن بحاجة إلى دراسة نفسية لمن تنطبق عليهم الظاهرة ولكني لا أعتقد السبب ذاتيا بسبب انتشار وعموم الظاهرة مما يجعلنا أمام ظاهرة ذات أسباب موضوعية، ويجب علينا الآن أن نبحث ونتساءل عن هذه الأسباب الموضوعية محاولين إيضاح ما يمكن إيضاحه منها.

وبالنسبة لي أفضل أن أبدأ البحث منذ البداية لدراسة البيئة الاجتماعية والأخلاقية التي نبعث منها الظاهرة متسائلا في البداية عن الثقافة التي تحكم العالم اليوم، وهل من الممكن أن تغذي هذه الثقافة ظهور هذه الظاهرة أم لا؟ سنرى حيال ذلك

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فكر العصور الوسطى وفكر عالمنا اليوم

المتتبع الجاد لسير نسق الحضارة الغربية الحديثة -وهي الحاكمة للعالم اليوم بلا شك- يرى بوضوح سيطرة النزعة المادية على معظم فصول الثقافة الغربية الحديثة، فعصر الاستنارة وبداية النهضة الأوروبية كان بلا شك انتقالا نوعيا كبيرا، ليس فقط على المستوى العلمي والمعرفي، بل أيضا على المستوى الثقافي، فقد تغيرت الثقافة الأوروبية كثيرا في تلك الفترة من التاريخ واستمر التغير والتطور إلى يومنا هذا،

فلو اطَّلعنا على ثقافة العصور الوسطى نرى بوضوح أنها ثقافة تحمل مرجعية ثنائية بمعنى أنها تؤمن بوجود عالمنا المادي هذا، وكذلك تؤمن بالعالم الغيبي المتجرد، وكان المجتمع والدولة والفلسفة الموجودة حينها كلها تدور في فلك إعداد الفرد للعالم الآخر؛ فكانت الأخلاق لها مرجعية تستند إليها وهي مرجعية الإرادة الإلهية وبالتالي المعاني الروحية كالتضحية والعدالة والحب والرحمة كانت لها قيمة كبيرة لأنها باختصار صفات روحية يرضى عنها الله، وتعد الفرد للعالم الآخر أفضل إعداد، فكان الله في العصور الوسطى -في الشرق والغرب- هو محور الكون وهو المرجعية الأخلاقية والغاية النهائية التي تقف عندها كل محاولات الوصول إلى السعادة الدنيوية والأخروية،

تلاشي فكرة المرجعية الثنائية

والمشكلة في الغرب -والشرق يعاني الآن من نفس المشكلة- أنه حين حاول الإنسان أن يصلح أخيه الإنسان فقد ذلك الإنسان إنسانيته، لقد توحش الإنسان باسم الرب وارتكب أفظع الجرائم وهو يذكر الله متناسيا الرحمة الإلهية وجوهر التدين الحقيقي القائم على الحب والرحمة والتسامح، مما أدى في نهاية المطاف إلى رفض الفكرة الثنائية والمناداة بفكرة المرجعية المادية الواحدية، من هنا تبدأ الحضارة الغربية الحديثة بالإطلال بوجهها على العالم،

والواحدية المادية باختصار تحاول تلخيص الكون واختزاله في المادة فقط وأن هذا العالم المادي مكتف بذاته متحرك بطبيعته لا يحتاج إلى فكرة الثنائية ولا غاية روحية تسبق وجوده، بل إن هذا العالم ذا مرجعية واحدة فقط، ألا وهي المرجعية المادية فقط لا غير وما يهمني من هذا الطرح ليس صحته من عدمها بل ما سيترتب عليه من أطروحات اجتماعية وأخلاقية وفلسفية، أما مناقشة صحة الطرح من عدمه فذلك من الممكن أن يكون محل نقاش بحث آخر إن شاء الله.

سيطرة المرجعية الواحدية للمادة

ما معنى أن يكون العالم ذا مرجعية واحدية مادية إذن؟ ذلك يعني باختصار -على المستوى الأخلاقي- انتهاء فكرة المثل العليا الروحية، فالعالم المادي يدور ويتحرك وفقا لنظرة نيوتن الميكانيكية وبالتالي يصبح هذا العالم الميكانيكي محكوما بقوانين المادة وفقط وبالتالي تتكون الأخلاق من نفس المنظور المادي وهذه النظرة المادية البحتة للعالم كانت السبب الأول لظهور أفكار أخلاقية مادية مختلفة، كفكرة المنفعة الخاصة لتوماس هوبس أو المنفعة العامة لبنتام ومل والبرجماتية والداروينية الاجتماعية والنتشوية التي كانت سببا رئيسيا في التنظير لفكرة النازية والفاشية بعد ذلك،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أي أن النظرة إلى الوجود أو النظرة الأنطولوجية تحدد النظرية الأخلاقية الواجب اتباعها من قبل الإنسان في تصرفاته اليومية، وهذا تسلسل طبيعي، ولذلك كانت النظرة المادية الواحدية إلى العالم السبب الرئيس في هذه النظريات الأخلاقية المادية السابق ذكرها وبالتالي أصبحت أفعال الإنسان كلها تدور في فلك المادة، ولقد لخص الدكتور الطيب بوعزة الفيلسوف المغربي هذا التحول من المرجعية الثنائية إلى المرجعية الواحدية المادية بأنها مرحلة السيطرة،

أي أن الطموح الإنساني كله تحول إلى الرغبة في السيطرة على هذا العالم ومقدراته وهذا أمر طبيعي لأن النظرة المادية للعالم لا ترى سوى لغة الربح والخسارة وبالتالي يصبح الهدف الأول من الحياة نفسها الربح والسيطرة على أكبر قدر ممكن من الثروة والسلطة وهذه النظرة الصراعية في باطنها كانت السبب الرئيسي في قيام الحروب العالمية التي أودت بحياة الملايين والملايين من البشر وبأبشع الطرق والوسائل والسبل، لقد كانت حربا تجسد تفشي سرطان المادية وشهوة السيطرة في العالم.

من المرجعية الواحدية إلى الشك المطلق

الحروب العالمية سببت صدمة كبرى في العقل الغربي، وبدأ التساؤل يعود من جديد حول نظرتنا إلى العالم المادية المشبعة بالمذهب الآلي النيوتونى ومع الصدمة الكبرى من الحرب العالمية واكتشاف العالم الغربي أن حلم السيطرة كان وهما

كذلك مع تحطم الأساس العلمي الذي قام عليه مبدأ المادية الآلية وذلك بانهيار مبدأ الحتمية واكتشاف نظرية الفوضى وميكانيكا الكم ومبدأ عدم التيقن لهايزنبرج تغيرت النظرة إلى العالم من جديد ولكنها لم تعد إلى فكرة الثنائية ولكنها انتهت إلى حالة الشك المطلق -تلك الحالة التي مر بها قدماء السفسطائيين وخصوصا غورياس- والتي تدعي عدم القدرة على التيقن من أي شيء وأننا نعيش حالة من الشك الدائم، شك يدفعه شك ولا معلومات أكيدة حتمية وهذا هو الفارق الأساسي بين المرحلة الأولى في نسق الحضارة الغربية الحديثة وهي مرحلة الحداثة ومرحلة ما بعد الحروب العالمية أو مرحلة ما بعد الحداثة

مرحلة الحداثة كانت تحاول إقامة صرح معرفي وأخلاقي وجمالي وأنطولوجي ولكن على أسس مادية بحتة، أما مرحلة ما بعد الحداثة لا ترى للأسئلة الكبرى أهمية أصلا لأن اليقين يطلب في القضايا الأخلاقية والأنطولوجية وما بعد الحداثة تعلنها صريحة برفض فكرة اليقين من جذورها وبالتالي كل الإجابات المقدمة على الأسئلة الكبرى تظل نسبية ذاتية وتعبر فقط عن تجربة صاحبها ولا يمكن أن تعمم تلك الإجابات لتشكل صرحا أو نظرة أخلاقية واضحة،

اضغط على الاعلان لو أعجبك
التشكيك في المعرفة ذاتها

وكان غورياس الذي أشرنا إليه منذ قليل يختصر مذهبه الفلسفي في ثلاث جمل

أولا: ليس هنالك وجود.

ثانيا: إن كان هناك وجود فليس هناك إمكانية لمعرفته.

ثالثا: إن كانت هناك إمكانية للمعرفة فليس هنالك إمكانية لنقل هذه المعرفة.

وبالتالي نرى أن النتيجة التي وصلت إليها ما بعد الحداثة لا تختلف كثيرا عن النتيجة التي وصل إليها غورياس والتي من الممكن انتقادها بسهولة فهو يقول أنه ليس ثمة إمكانية للمعرفة، بينما هو يعرف بأن هناك وجودا! وهذه معرفة! بل حتى مجرد معرفته بأنه ليس هنالك إمكانية للمعرفة هي بحد ذاتها معرفة، بالتالي هذه الطريقة في التفكير تناقض نفسها ولا نستطيع أن نعول عليها كثيرا،

اضغط على الاعلان لو أعجبك
مبدأ اللذة الحالية وعصر الاستهلاك

ولكن ما بعد الحداثة لم تكتفي بالطرح النظري الضعيف هذا وإنما دعمته بتعديل الغاية النهائية لحياتنا، لقد قلنا بأن مرحلة الحداثة كانت مرحلة الرغبة في السيطرة والهيمنة، بينما ما بعد الحداثة ترغب فقط بالرفاهية البحتة، لأن ما بعد الحداثة تخبرنا باستحالة الوصول إلى معرفة يقينية حول الوجود –وهو ما انتقدناه منذ قليل- وبالتالي لم يعد هناك في هذه الحياة -من وجهة نظر ما بعد الحداثة- إلا الاستمتاع بهذه الحياة ضمن حدود المادة أيضا

ولذلك تغيب تماما هذه الأيام كل الأحاديث عن الغايات النهائية لهذا العالم واختفت الفلسفة من الخريطة المعرفية فهذا هو عصر الاستهلاك الذي جعل معظم سكان الأرض عبيدا للمادة والرفاهية المطلقة.

هذه الطريقة في التفكير على الرغم من السطحية التي تتميز بها إلا أنها تحكم العالم حاليا، ثقافة الاستهلاك والاستمتاع غزت عقول معظم سكان العالم، لم يعد يشغل بال الإنسان اليوم سوى سبل الاستهلاك الجديدة التي لا تنتهي، لقد أصبح الإنسان أسير هذه الثقافة، والجوكر كواحد من بني البشر كان أسير هذه الثقافة أيضا، لكنني أعتقد أنه قد سأل عن الغاية من كل هذا، ما الغاية من كل هذا الاستهلاك الذي لا حدود له، ما الغاية التي سينتهي إليها كل هذا، أعتقد أن الجوكر سأل ولم يجد الإجابة، لقد علم الجوكر بعبثية كل هذا الطرح الهزلي الاستهلاكي المادي الذي يحكم العالم وقرر أن يسخر منه على طريقته الخاصة.

لماذا انتحر الجوكر؟

لم يكن الجوكر فيلسوفا، وإنما إنسان ربما أعقل من كثيرين يذهبون إلى عملهم كل يوم غير مبالين بمصير هذا العالم ولا بغايته، إني لا ألوم الجوكر كثيرا لأنه لم يجد الطرح الفلسفي العقلاني -الطرح الثنائي- الذي يقدم تفسيرا قويا لهذا العالم ويقدم تفسيرا مميزا للأخلاق وللإنسان، وفي نفس الوقت لا ينكر الحقائق المادية ويسعى إلى سبر أغوار هذا العالم المادي كما يسعى إلى اكتشاف عالمنا الداخلي الروحي.

في الأخير أود القول بأنه بدون طرح الأسئلة الرئيسة حول غاية هذا العالم من جديد وإيجاد حلول أكثر عقلانية لها، ستصبح حالة الجوكر سائدة، فالإنسان اليوم مثقل بحمل المادية المفرطة من جانب، ومن جانب أخر لا يجد أسباب مقنعة لمعاناته اليومية وأصبح يستسلم للأفكار العبثية، على هذا الحال سيصبح الجوكر هو الحالة الاجتماعية السائدة،

علينا أن نجد أطروحة بديلة تفسر هذا العالم تفسيرا عقلانيا لا نعاني معه من غياب الهدف والغاية كما هو الحال في عالمنا اليوم، لقد انتحر الجوكر لأنه كان ضحية هذا الطرح العبثي وإني أرى الإنسان ينتحر كل يوم ألف مرة إذا ما استسلم لهذه العبثية وجعلها تتحكم في مسار حياته، إنك إنسان يا صديقي تميزت بعقلك عن باقي كائنات الأرض وكل لحظة تتخلى فيها عن هذا الامتياز هي لحظة انتحار وهلاك لشخصك وللبشرية كلها، ونقول في الأخير إننا بحاجة لإحياء دور العقل من جديد والكف عن أخذ المسائل على علاتها.

اقرأ أيضاً:

ما هو سر الملل الرهيب فى حياتنا ؟

الحب فى عصر ما بعد الحداثة

نظرة مختلفة إلى العالم

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

أحمد رمضان

طالب بكلية الهندسة – جامعة المنصورة
كاتب حر
باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة

مقالات ذات صلة