مقالات

ما هي اللغة التي يفهمها العالم كله دون الحاجة لدراستها؟

كنت دوما أستمع لمن يقول أن “الموسيقى هي اللغة التي يفهمها العالم كله” لأنها مجموعة من الألحان التي لا تحتاج إلى تفسير، فتدخل مباشرة إلى الروح وتلامسها وتؤثر فيها، ولكني كنت أشعر داخلي بشيء من عدم الاقـتناع ، كيف تكون الموسيقى لغة العالم ؟، ويتبادر لذهني سؤال مهم “ماذا لو كنت لا أحب الموسيقى، ماذا لو كانت لا تلامس روحي أو تخبرني بأي شيء مما يقولون فماذا عساي أن أفهمه أو أقرأه من نغماتها؟!

وبصرف النظر عن مدى صحة وصدق المقولة من عدمها، فقد كنت أرى دوما أن لغة العالم  التي يقرؤها العالم كله دون الحاجة لأي تفسير أو ترجمة هي السلوك والأفعال.

فأنت عندما ترى شخصا ما يعطف على الضعيف ويعامله برفق ولين، مهما كانت لغتك، بلدك، ثقافتك أو جنسك، سوف تقرأ هذا السلوك وتفهم منه معنى الرحمة، وعندما ترى شخصا آخر يقسو على ضعيف، يضربه، يعذبه… لن تقرأ من هذا السلوك أو تفهم إلا معنى القسوة والظلم!

ولكن مع التقدم بالعمر أصبح الأمر بالنسبة لي أكثر تعقيدا بشأن السلوك، وتبادر إلى ذهني العديد من الأسئلة الأخرى الهامة جدا، فمثلا ماذا إذا كان هذا السلوك الرحيم يخفي وراءه رغبة خبيثة للوصول إلى مصلحة ما؟ وماذا لو كان السلوك القاسي يخفي وراءه موقفًا عصيبًا تعرض فيه الإنسان لظلم شديد فكان رد فعله هو التصرف بغضب وقسوة؟ الأمر يزداد تعقيدا، فالسلوك الظاهر ليس إلا نتيجة تخفي وراءها أسبابًا مختلفة، انفعالات وحالات شعورية ونفسية صعبة، أفكارًا كثيرة معقدة ومتشابكة وفي بعض الأحيان متناقضة، مريضة، غاضبة أو مشوهة وخاطئة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وليكن، أيا كان ما يخفيه السلوك، ماذا يعنيني، لماذا أهتم؟ يكفيني أن أحسن التعامل مع نفسي وأهذبها ومع غيري أيضا، لماذا عليَّ أن أفهم ما وراء سلوك الآخرين، لماذا عليَّ أن أحكم على نياتهم وسلوكهم، وأنصِّب نفسي قاضيًا وحكمًا… كان هذا هو التطور الثاني في طريقة تفكيري والذي آمنت به لفترة ليست قصيرة من حياتي، فلا معنى لأن أجهد نفسي في التفكير في دوافع الآخرين وما يختبىء وراء سلوكهم وأفعالهم، عليَّ فقط أن أتعامل مع الظاهر ولا شأن لي بغير ذلك..

ولكن انتظر، انتظر لحظة، وماذا عنك، ألا تحب أن يعاملك الناس ويقدرون بعضًا من ظروفك ويسمعون أعذارك ويتفهمون كيف كانت حالتك عندما أخطأت وتصرفت بهذه الطريقة غير اللائقة، أم عليهم أن يتعاملون معك فقط بالظاهر ولا يقبلون أي شيء تقوله، ولماذا يعنيهم دوافعك والتفكير والاهتمام بنيتك إذا كنت أنت لا تهتم بدوافع غيرك وأعذارهم، إن كان الأمر لا يعنيك، فهو بالتأكيد لا يعنيهم!

ما هذا؟ لماذا يزداد الأمر تعقيدا؟ وكيف السبيل للفهم، وكيف الطريق للسداد وصحيح التعامل مع النفس والآخرين؟ هل ظاهر السلوك الإنساني هو فقط ما يمكننا فهمه وعلى هذا الأساس يكون التعامل معه في مختلف جوانب الحياة، أم أن الأمر أكثر عمقا، ولا بد من فهم ما وراء هذا السلوك من غاية حتى نستطيع فعلا تقييم السلوك والحكم عليه ومن ثم التعامل معه؟

دعونا أولا نتفق على أمر هام ألا وهو أنه “لا يوجد سلوك بدون فكر” فأي سلوك تقف خلفه فكرة أو مجموعة أفكار، والأفكار ما هي إلا نتيجة طريقة تفكير يتبعها الإنسان في حياته وهذه الطريقة في التفكير مرتبطة بمنهج معرفي معين يستخدمه الإنسان في فهم واستيعاب كل ما يتلقاه ويعرفه من معلومات في حياته وبالتالي الأمر يبدأ من اختيار المنهج المعرفي الصحيح الذي يستخدم قواعد المنطق الضابطة للتفكير بحيث يضمن سلامته من الخطأ ويرده إلى الصواب إذا أخطا أو انحرف.

وماذا بعد اختيار المنهج المعرفي المسئول عن طريقة التفكير وتصنيع الأفكار؟ يأتي بعد ذلك أن تتوافق السلوكيات مع الأفكار وتترجمها لواقع معاش، ولكن ليس هذا ما يحدث دائما، فكثير من الأحيان يتعارض ما نؤمن به ونعتقده من أفكار ومبادىء مع ما نقوم به من سلوك وأفعال وهذا أمر كارثي، فإذا كانت الأفكار التي يؤمن بها الفرد في اتجاه وأفعاله في اتجاه آخر مختلف يصبح هذا الإنسان في حالة دائمة من الضيق والشعور بعدم الراحة، ومع الوقت تقل هذه الحالة غير المريحة، ويعتاد الإنسان أن يفعل ما تقتضيه الظروف وتحتمه المصلحة بصرف النظر عما يعتقده حول أفعاله وقربها أو بعدها عن الصواب والحق، فتنشأ حالة الانفصال الشديدة بين الأفكار والمبادىء من جهة وبين السلوك والفعل من جهة أخرى والتي يعاني منها العالم أجمع ولا سيما مجتمعاتنا العربية، فيحدث كما نرى جميعا، السلوك الذي ظاهره الرحمة قد يخفي خلفه رغبة في تحقيق منفعة، والسلوك الذي ظاهره القسوة قد يكون من فرط الظلم الذي تعرض إليه الإنسان وللأسف هذا الأمر يؤدي تدريجيا إلى الكفر بالقيم والأخلاق وقيمتها ومن ثم التخلي عنها وعزلها عن الحياة العملية لتصبح مجرد شعارات لا جدوى منها ولا منفعة من التمثل والتخلق بها واستبدالها بالفكر الداعي لنسبية القيم وسيطرة المنفعة والمصلحة وتحكمها في توجيه سلوك الفرد والمجتمع، الأمر الذي أدى لتفشي آفات ومشاكل أخلاقية ومجتمعية خطيرة نراها جميعا ونعاني من توغلها في حياتنا، هذا فضلا عن جعل عملية تشخيص المشاكل والوقوف على أسبابها كمحاولة للإصلاح هو أمر شاق جدا نظرا لوجود هذه الفجوة الكبيرة بين الفكر والسلوك، أما إذا توافق الفكر مع السلوك حتى وإن كان الفكر نفسه فيه مشكلة، فتصبح على الأقل محاولات الإصلاح إذا ما رغب فيها الفرد والمجتمع أيسر وأسهل لتوافق الفكر والفلسفة مع الفعل والسلوكيات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والإنسان العاقل يحاول ويتحرى دوما التوفيق بين ما يعتقده من أفكار ومبادىء وبين ما يفعله من سلوكيات في مختلف أمور حياته الأمر الذي يؤدي به مع الوقت إلى الانسجام والتوافق والاتساق الفعلي بين ما يعتقده وما يفعله فتتـزن حياته وتطمئن نفسه وتستقيم أموره، ولا يجد صعوبة في التعامل مع نفسه أو الآخرين، يستطيع أن يدرك ببساطة أنه لا يمكن قراءة السلوك أو الحكم عليه إلا من ظاهره فقط وأنه لا سبيل للتيقن بما في السرائر وبما في دواخل النفوس؛ فهذا أمر ليس في مقدور أي إنسان معرفته وإنما يعلمه الخالق وحده، ولكن العاقل هو من لا يتسرع في حكمه على ظاهر السلوك من موقف أو اثنين، وإنما يتعامل مع الموقف الحالي والسلوك الظاهر بالقدر الذي يتتطلبه الموقف وبما يتوافق مع المبادىء والأخلاق وفقا للحق والعدل، وفي نفس الوقت يأخذ وقته في فهم الآخر وفهم تفكيره ودوافعه إذا تطلب الأمر منه الاحتكاك الدائم مع هذا الشخص من ثم ضرورة فهم عقليته وطريقة تفكيره ليجد أنسب طريقة للتعامل معه بشكل أخلاقي ومحترم من شأنه أن يخلق بينهما علاقة متزنة أساسها صحيح الفهم وتحكيم العقل والأخلاق في كل تعامل، ومع اتساع نطاق التعقل من الفرد للمجتمع تقل الفجوة والتناقض بين الفكر والسلوك فيتوافقان معا ويصبح السلوك فعلا هو مرآة الفكر وترجمته، فتقل حالات التناقض بينهما، ويسهل تشخيصها ويصبح التعامل معها أيسر وأسهل، ومن ثم يصبح السلوك هو فعلا اللغة التي يقرؤها العالم كله ويفهم مغزاها بيسر وسهولة على اختلاف اللغات والثقافات والجنسيات.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

منى الشيخ

مطور برامج

باحث بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية

مقالات ذات صلة