إصداراتمقالات

لذة الموت وألم اليقظة

فطر الإنسان علي أن يتوق إلي الكمال وترغب كل جوانحه في فعل ما يراه صحيحا. والناس جميعا يشتركون في قناعة فطرية بحد أدني من “الجيد” الأخلاقي والسلوكي فلا تجد أحدا يقبح العدل والعدل هو القيمة المؤسسة لكثير من قناعاتنا الأخلاقية فكل يدور في فلكه وكل لا يستغني عن تبني فلسفة خاصة عنه مفهوما وفلسفة ومقتضي ومصداق في الحياة العملية. وهذه الرغبة الفطرية داخل الإنسان أقوي مما قد يظهر للناظر إلي القشور. فإذا كان الإنسان علي مدار التاريخ يعرض نفسه للموت من أجل قضاياه التي قد تكون الشرف أو الفضيلة أو الدفاع عن وطنه وعرضه ولا يجد غضاضة في سفك الدماء في سبيل هذه القضايا فإنني أستطيع وبلا تردد أن أقول أننا أمام غريزة تفوق غريزة البقاء تكتمل بالتزاوج مع الرؤية الكلية السليمة في مزيج رائع يصنع المعجزات. ولكنه أيضا – الإنسان – فطر علي ما يقف في طريق هذه الغريزة ويعطل الإنسان عن الوصول إلي جنة الإنجاز في الحياة وفردوس الرقي والكمال الروحاني والنفسي والأخلاقي والسلوكي وهذه الفطرة هي ما يمكننا أن نطلق عليه رغباته الشهوانية والغير عقلانية التي لا تمل تطالبه بالعدول عن فعل ما يراه إلي فعل ما تشتهيه نفسه وتجنب الآلام الموصلة إلي الكمال البعيد من أجل تحصيل لذة قريبة زائلة موصلة إلي ألم يسحق عظام الإنسان. نحن إذن أمام صراع يسير مع الإنسان في طريقه كظله لا يفارقه والانتصار في هذا الصراع لصالح ما خلق الإنسان لأجله هو فعل عقلي أصلا ,, فعل عقلي يقف الإنسان فيه إلي جانب السعادة الدائمة والعقلانية الموصلة إليها والمجد الحقيقي والحكمة والبصيرة النافذة في مقابل الركض وراء الشهوات التي لا علاقة لها بالعقل ولا تنفذ بخير أو برقي إلي الغد ,, فعل عقلي ينتصر فيه الإنسان للعمل والبناء من أجل “المستقبل” علي توقه الى لذة عابرة “الآن”. فعل عقلي يتميز بإدراك سليم وفهم نافذ للخديعة اللتي ينسجها الإنسان حول نفسه وبصيرة تخترق أسوار الزمان لتري مآل الانسياق وراء الحقيقة ومآل الانزلاق في جحيم الوهم. ويالها من لذة لا تفوقها لذة أن يتملك الإنسان بعقله زمام الأمواج المتلاطمة من قواه النفسية ورغباته الداخلية وفي طريق السعادة الحسنة بعشر أمثالها. ولأنها قوي تتدافع بداخل الإنسان فإن هذا الفعل العقلي – تحيزه لقواه العاقلة وهجرته من بلاد الموت إلي بلاد اليقظة والوعي ووقوفه شامخا متأملا في آفاق المستقبل بعد نومته الطويلة واختياره تحمل المكاره في طريق الجنة علي الغرق في الملذات وفي الجحيم حتما – فعل يتضمن آلاما ويتطلب جهدا وبذلا لنفض غبار الماضي والخروج من منطقة راحته التي تعود فيها علي الموت وألف فيها سلاسل العبودية. ونحن في سبيل تجنب الآلام نتحمل الكثير من العنت والعذاب النفسي والألم الذي يجره علينا عدم الوقوف بقوانا العقلية علي طبيعة العلاقة بين الألم واللذة وتجاهلنا لحقيقة أن تحمل بعض الألم وبذل بعض الجهد هو أمر لازم وضروري بداهة لتحقيق أي شيء فلن تجد في الكون جسما يتحرك بدون طاقة تدفعه للحركة فما بالنا نهرب – مضيعين لوقتنا وطاقاتنا – من صرف ما وهبنا إلي ما خلقنا لأجله؟وإيغالا في بحار الوهم يتعامل الإنسان مع الألم علي أنه العدو اللدود والنقيض المطلق للذة ولا يلتفت إلي أن الألم مقابله عدم الألم أي الراحة ويالحمق من يعتقد أن الراحة المطلقة هي قمة السعادة واللذة. فلا تمنعنا مصاعب تربية الأطفال من رؤية ما تحمله هذه المنحة من نعيم ولن تصادف من يختلف معك أن حل لغز علمي – علي كثرة ما يبذله العالم في طريقه – يجعل العالم يذوب من فرط السعادة واقرأ عن مصاعب العبادة ولذتها ستري الحق جليا واضحا. لكن الإنسان يطوع هذا المفهوم الخاطئ عن الألم واللذة في كبت غريزته التي سبق ذكرها وهي أن يفعل ما يراه صحيحا. ولأن الإنسان يري الكمال صحيحا ولأن الإنسان علي نفسه بصيرة فأنه لا يستطيع الهرب من ضميره ورغبته الفطرية في سلوك طريق الكمال فيجر علي نفسه عذابا وألما لا ينفع معه أن يلقي معاذيره ولا يعزيه أن يضع علي عينيه الغشاوة بإرادته ليشوه الحقائق وليبرر لنفسه عدم المواجهة والعمل والبذل وإطلاق عنان العزيمة. ويدور الإنسان في دائرة مفرغة تتغذي فيها الكآبة والوهم علي بعضهما ويزيده النوم جهلا والجهل نوما حتي يألف فقدانه للوعي. ولا أجد مفرا من التساؤل .. إذا كان الإنسان يبذل في طريق الهرب من الإبصار والغط في النوم وغياب الوعي كل هذا الجهد .. وإذا كانت الحياة الواعية قبيحة إلي هذه الدرجة حتي أنه يفضل أن يعيش مغيبا فلم لا ينهي الأمر برمته ويضع حدا لآلامه ويقتل نفسه؟ الإجابة أنه حقيقة يفعل.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة