مقالاتقضايا وجودية - مقالات

مش كفاية فلسفة لحد كده؟

العدمية و غياب الحكمة و الفلسفة

تظهر العدمية على مر التاريخ كفكرة متكررة تلقي بظلالها على المجتمعات كلما غابت عنها شمس المعرفة والحكمة و الفلسفة. فنحن نرى في التاريخ محاولات السفسطائيين في القرن السادس قبل الميلاد في أثينا. هؤلاء المفكرين الذين نادوا بنسبية الواقع في ميولهم “المعتدلة” كـ “بروتاجورس” مثلا أو بإنكار الواقع أصلا في نظرات أكثر تطرف كالتي نراها عند “جورجياس”.

وتتجدد تلك النعرات ثانية مع “بيرو” في عصر ما بعد الإسكندر الأكبر وخلال تفتيت واضمحلال مملكته على أيدي قادته وخلفائه من بعده. وتتجدد في التاريخ المعاصر بعد صراعات أوروبا الدامية بين سلطة الدين والتاج في ممالك أوروبا كلها. هذه الصراعات التي أبت أن تنتهي إلا بكارثتين عالميتين راحت ضحيتهما ملايين الأرواح التي لم تعرف لماذا تقاتل؟ أو لماذا قتلت؟ في صراع أعمى لم تقف وراءه إلا نظريات متعاكسة تشترك في خلفية مادية ثابتة تنبت منها مناهج استغلال للمادة أدت لتلك الصراعات المهولة.

فانتهت عقول الغرب إلى أن السبب في الفشل المتكرر في تحقيق نموذج السعادة الاجتماعية ليس الخطأ في التطبيق، لكن الخلل كان في وجهة نظرهم هو طرح النظريات لهذا النموذج من الأصل؛ فالارتباط في الحياة بغاية أو هدف كلي يحرك المجتمعات كان السبب في صراع المجتمعات، ذلك لأنه لا يمكن تحقيق الاتفاق التام بين كل مجتمعات العالم على نموذج موحد وعالمي للسعادة الاجتماعية. فكان الحل في وجهة نظرهم هو عدم الارتباط بنموذج معين لأن الأزمة ليست في تطبيق الفكرة ولكن في وجود الفكرة من الأصل.

وفي المقابل أرجعوا تشخيص السعادة لموازين أخرى غير التحليل العقلي لواقع الإنسان. فإما ميزان نفعي أو سلطوي (حق القوة) أو ذوقي إحصائي ناتج عن استقراء آراء الجماهير. وناهيك عن النقد الصارخ الذي وجهه أكثر من مفكر وفيلسوف لهذه المعايير في مختلف العصور والأزمنة، فالنعرة العدمية والانجذاب نحو المادة مع التألم النفسي من كثرة الصراعات والظلم الذي تراكم في ذاكرة تلك المجتمعات، كل هذه العوامل منعت الآذان والقلوب والأبصار أن تدرك النهاية المأسوية التي تؤدي لها تلك الطرق غير السليمة. ولكن بعد كل هذا أذكر مقولة فلسفية شهيرة توضح زيف هذا الإدعاء بإنكار الفكر وكونه السبيل لراحة الإنسانية فأنت: تحتاج للمنطق لتنكر المنطق،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وللفلسفة لتنكر الفلسفة.

أي أننا نحتاج لأن ننتج فكرا لكي نستدل على إنكار أو فساد فكر آخر، فتلك الحالة “العدمية” هي حالة زائفة تناقض نفسها ولا يمكن لها أن تتحق إلا في مخيلة من يدعون لها.

في عالم آخر

وفي عالم آخر موازي نجد مركزية الفكر في حضارات قديمة خلدها التاريخ. نذكر منها الهندية وفلسفاتها الهندوسية والبوذية، والصينية بالكنفوشنوسية والطاوية وبلاد فارس في فلسفتها الزرادشتية والمانوية وكذلك حضارات وادي الفرات ووادي النيل القديمة التي ارتكزت على المفاهيم الفلسفية والأخلاقية في تربية المجتمع. ولعل ما يبرز ذلك كمثال وصايا الحكماء كبتاح حتب وكاجمني في مصر القديمة ومحاولة حمورابي القانوني في بابل لوضع قانون يضمن تحقيق العدالة في المجتمع. ولا يمكننا أن ننسى حكماء الإغريق الثلاثة: سقراط وأفلاطون وأرسطو بكتابتهم المنمقة المحكمة والتي انتهت لوضع قواعد علم الأخلاق والسلوك على المعيارين الفردي والأخلاق بعد أن أسسوا لرؤية الإنسان لنفسه ووجوده التأسيس العقلي والفلسفي الدقيق.

وانعكست كل تلك الأفكار والكتابات الأدبية على العصور اللاحقة والتي عكفت على إعادة قراءة هذه النصوص وترجمتها وتفسيرها لاستخلاص الحكمة منها فخرجت العديد -إن لم يكن كل مدارس الفكر الحديثة- معتمدة على هذه المجهودات الفكرية العظيمة. ومن ثم قامت تلك المدارس بتوضيح انعكاسات هذه الأفكار على ظروف تلك العصور الحديثة، فليس كل ما كتب في الماضي يلائم الحاضر، وليس كل ما يحدث في الحاضر مشمولًا في كتابات الماضي. فكان لا بد للعالِم والخبير بأمور المجتمع وأمور العصر الذي يعيش فيه أن يطور من المعايير والشرائع الأخلاقية وفق ما يلائم ذاك الزمان دون أن يمس هذا التطوير القواعد الكلية التي بنيت عليها الفلسفة الأخلاقية والسلوكية وفق ما استدل عليه العقل بالبرهان العلمي، فيكون التطوير في جزئيات العلم لا في كلياته.

الحكمة والتناغم

فالحكمة تبحث عن التناغم بين المتعاكسات، ذلك الذي يشبه التناغم بين الرخيم والحاد في الموسيقى لتنتج الأصوات العذبة التي تمس قلوبنا حين نسمعها وتنقلنا لعالم آخر نشعر فيه بنوع من أنواع اللذة التي نجمت عن هذا التناغم المتقن. فلا ينظر للأضداد على أنها حتمية للصراع والقتال ولكن كحتمية للتكامل والتآلف. كنت أشاهد أحد الوثائقيات عن صناعة القوس والسهام في العصور الوسطى، وعلى عكس ما كنت أتصوره أن قوة القوس تكمن في وتر القوس والذي كنت أعتقد أنه يعطي القوة المطاطية التي تقذف بالسهم، وجدت المحلل يرجع السبب في تلك القوة للقوس نفسه لا للوتر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفسر ذلك بأن القوس الجيد كان يصنع من نوع معين من الأشجار له قلب لين وكساء خارجي قاسي، فعندما يصنع القوس من هذا الخشب المركب من القاسي واللين (التضاد) ينتج عن هذا التناغم القوة الجبارة التي نراها حين نرمي بالسهم من القوس. فالقوس يصمم ليكون جانبه الذي في ناحية الرامي من الخشب القاسي، أما الناحية الأخرى فتكون من الخشب اللين. وبذلك يمنع الخشب اللين ذلك القاسي من أن ينهار وينكسر تحت ضغط الشد، وعندما يترك الرامي الوتر ينتقل كل هذا الضغط للسهم فيرمي به لمسافات أطول وبقوة اختراق أعلى.

وكذلك هي الحكمة التي تبحث عن التناغم دائما. ففي المعرفة تبحث الفلسفة عن التناغم بين العقل اليقيني ولكن المحدود عن العمل في الجزئيات، وبين الأدوات الظنية كالتجربة العملية والنص والتي تعمل في الجزئيات بكفاءة بعد أن تتأسس على الكليات التي يبرهن عليها العقل لتعود بالنتائج للعقل الذي يقارن بينها وينقحها ويحكم بصحتها أو بخطئها.

الفلسفة والتناغمات

أما في الوجود فيبحث عن التناغم بين المجرد الساكن الذي لا يتحرك ذاتا، وبين الجسد المتحرك والذي لا يعقل ذاتا ويفتقر للمحل الذي يستجمع فيه العلم والمعرفة لتحصيل كماله.

فعندما تصل الفلسفة لهذه التناغمات بين مركبات الإنسان والوجود نفسه، تنتج ثمرة غاية في الأهمية لحياة الإنسان، هي ثمرة الأخلاق والسلوك، ذلك الباب الذي مثل غيره من أبواب الفلسفة يبحث عن التناغم بين شهوات النفس وغضباتها وبين العقل. وتضع القواعد العملية التي بها يصير العقل مسيطرا على باقي مكونات النفس ومن ثم على كل جوارح الجسد ليستطيع أن يقود الإنسان في رحلته وبحثه عن الكمال والسعادة. ولربما هنا ميَّزنا تمييزا غير ضروري بين الإنسان وعقله في حين أن العقل لمَّا كان هو المميز للإنسان عن غيره من الكائنات والمخلوقات كان هو ذات الإنسان الذي إذا انتفى لم يكن الإنسان إنسانا.

فانتهت الفلسفة بأبوابها الثلاثة لتكوين متكامل يشمل وينبع منه كل معارف الإنسان، فمن المعرفة تنتج نظرية المعرفة ومناهج البحث العلمي المختلفة ومن الوجود نتجت العلوم المادية: الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم الوجود المجرد وهو ما يسميه الفلاسفة بالإلهيات. أما في باب الأخلاق فتخرج لنا الفلسفة الأخلاق الفردية التي تنظم حياة الفرد والأخلاق الاجتماعية التي تنظم حياة المجتمع كعلم الاجتماع ومناهج الاقتصاد ومناهج نظام المجتمع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضا:

صواب أم خطأ ؟ هل كل شئ حولنا يبدو منطقياً ؟

الحرية الشخصية بين التحرر والاستعباد.. ماذا يعني أن أكون حراً ؟

المثاليون خبـراء التعطيل.. كيف توصل الفراعنة لبناء الهرم المتين ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة