ميداس واللمسة الذهبية!
في الميثولوجيا الإغريقية، كان الملك ميداس (Midas) حاكمًا أسطوريًا لمملكة فريجيا (Phrygia) –إقليم قديم في الجزء الغربي الأوسط من الأناضول – تركيا الآسيوية الآن–،
وربما كان الاسم يشير إلى حاكم القرن الثامن قبل الميلاد المعروف في النقوش الفريجية والمصادر الآشورية القديمة باسم ميتا الموسكي (Mita of Mushki) أو ميتا حاكم موسكي،
الذي اتسمت فترة حكمه بالعدالة والوفرة، وإن كان –من المنظور الروائي– قد افتقد إلى الحكمة وعمق التفكير والتأني في اتخاذ القرارات.
كان «ميداس» ذا ثروة ضخمة، لديه كل ما يمكن أن يتمناه أي ملك، لكنه رغم الثراء الفاحش الذي أتاح له حياة الرفاهية مع ابنته الجميلة، كان جشعًا، غير قانعٍ بما في حوزته، مولعًا بامتلاك الذهب، مهووسًا بالمزيد منه، حتى أنه اعتاد أن يقضي قسطًا كبيرًا من وقته في عد عُملاته الذهبية، بل لقد كان يُغطي جسده بهذه العملات وكأنه يرغب في الاستحمام بها!
أسطورة الملك ميداس
ذات يوم، وبينما كان الملك يتجول في حديقة قصره الوردية، صادف ساتيرًا (Satyr) مخمورًا يُدعى سيلينوس (Silenus)، والساتير في الأساطير اليونانية هو مخلوق ذكر من حاشية إله الخمر ومُلهم طقوس الابتهاج والنشوة ديونيسوس (Dionysus)، وله بعض ملامح الماعز، لا سيما من حيث الذيل والقرنين.
كان سيلينوس حكيمًا، حتى أنه عُرف كمُعلم ومرشد لديونيسوس، لكنه في هذه اللحظة كان يعاني من آثار جلسة شُرب مكثفة في الليلة السابقة، فما كان من ميداس إلا أن عمل على إفاقته، ومنحه وجبة دسمة مُشبعة، ثم أعاده إلى «ديونيسوس».
في رواية ثانية، لم يكن سيلينوس مخمورًا، وإنما قام ميداس بوضع مُخدرٍ له في بركة ماء كان يشرب منها الساتير بحديقة قصره، رغبة منه في أسره والاستحواذ على ما لديه من علومٍ ومعارف.
وفي رواية ثالثة، قام رجال ميداس بالقبض على الساتير في أحد حقول فريجيا، فطوقوه بأكاليل الورود واقتادوه إلى الملك، حيث ظل يُسليه لخمسة أيام متتالية بقصصٍ من الأراضي البعيدة الغريبة.
قصة الملك ميداس واللمسة الذهبية
أيًا كانت الرواية، فقد قام ميداس بإعادة سيلينوس إلى ديونيسوس، فغمرت الأخير الفرحة لعودة مُعلمه ومُرشده، ورأى أن يُكافئ ميداس بتحقيق أمنيةٍ واحدة ترك له حرية اختيارها، ولم يُفكر الملك طويلًا،
فاختار ما فيه شقاؤه وتعاسته؛ طلب من ديونيسوس أن يمنحه القدرة على تحويل أي شيء يلمسه إلى ذهب. حذره ديونيسوس من عواقب تحقيق هذه الأمنية، لكنه كان مُصرًا، فاستجاب له، ووهب له تلك القدرة على مضض!
الملك الذي حول ابنته إلى ذهب
انصرف ميداس سعيدًا، وبدأ في تجربة مهارته الجديدة على الفور، لكن الدهشة غشيته حين رأى الزهور والأغصان والأحجار تتحول إلى قطع ذهبية صماء بمجرد أن يمسها بيده، وحين أمسك بحصانه وهمَّ بامتطائه تحول الحصان بدوره إلى ذهب، أو بالأحرى إلى معدنٍ بارد لا حياة فيه ولا حراك له، وبعدما وصل إلى قصره مشيًا تحولت أعمدة المدخل التي اتكأ عليها إلى ذهب!
في مُنعطفٍ أكثر خطورة أراد الملك أن يغسل يديه لتناول طعام العشاء، لكنه بمجرد أن وضع يده في الوعاء تحول الماء إلى ذهب، وحين جلس إلى مائدته مُلبيًا نداء بطنه تحول كل الطعام والشراب الذي لمسه إلى ذهب، فاستلقى على سريره جائعًا يُريد النوم، لكن أغطية السرير تحولت إلى ذهب يحول دون نومه أو بث الدفء إلى جسده!
امتلأت عيناه بالدموع، وأدرك أن جشعه قد قاده إلى هلاكه، وفي تلك اللحظة دخلت ابنته الحبيبة الغرفة فعانقها دون تفكير، لتتحول بين يديه إلى تمثالٍ ذهبي، فانطلق بائسًا ومُرتعشًا إلى ديونيسوس، وتضرع إليه كي يرفع عنه هذه النقمة ويُحرره من هذا البلاء.
اقرأ أيضاً: عصر البلاستيك
تعرف على: قصة حمى الذهب في كاليفورنيا
اقرأ أيضاً: يوم أكل الثور الأحمر
لعنة أبولو
بعد أن اعترف بخطيئته رقَّ له قلب ديونيسوس، وأمره بشد الرحال إلى نهر باكتولوس (Pactolus) –بالقرب من ساحل بحر إيجة في تركيا– لكي يغتسل فيه عند منبعه، فما لبث أن فعل رغم مشقة الرحلة. وهكذا انتقلت قدرة تحويل الأشياء إلى ذهب من ميداس الى مياه النهر، وتحولت رمال الوادي إلى حبات ذهبية!
من جهة أخرى، يبدو أن ميداس كان ملكًا سيئ الحظ في الأساطير اليونانية، لأنه واجه مشكلة أخرى صعبة مع إله يوناني آخر هو أبولو (Apollo) –إله الشمس والموسيقى والرماية والشعر والرسم والمرض والشفاء وغيرها–.
إذ استمع ذات يومٍ للإله بان (Pan) –إله المراعي والموسيقى الريفية– بينما كان يشدو بأغنية ويعزف لحنًا على مزماره المصنوع من القصب، فأعجب به وراح يشيع أنه يفوق أبولو في قدراته الموسيقية،
رغم كون الأخير إلهًا للموسيقى بشكل عام، وملهمًا للفنون الجميلة على اختلاف أنماطها، ما دفع أبولو إلى تحدي بان في مباراة للعزف، واحتكما إلى تمولوس –الروح الجبلية التي تسكن جبل تمولوس (Tmolos) بإقليم ليديا (Lydia) غرب تركيا–.
الملك ميداس بأذني حمار
بعد أن انتهى الاثنان من عزفهما؛ بان على مزماره، وأبولو على قيثارته، حكم تمولوس بتفوق أبولو، وسلَّم الجميع بحُكم تمولوس، فيما عدا ميداس الذي أصَّر بغبائه على أن بان هو الأفضل في عزفه، فغضب منه أبولو وقرَّر أن يُعاقبه بتحويل أذنيه إلى أذني حمار!
أصيب الملك بالحُزن، ولازمه الخجل، كيف يقابل أصدقاءه وأفراد أسرته ورعيته بأذني حمار؟ وضع فوق رأسه عمامةً تُخفي الأذنين، لكن شعر رأسه أصبح طويلًا، واضطر إلى استدعاء حلاقه الخاص لكي يقص له شعره.
أغلق باب الغرفة، وخلع العمامة، وفوجئ الحلاق بأن الملك أصبح بأذني حمار! أمره الملك أن يكتم سره، ووعده الحلاق بذلك، لكن السر ظل يؤرقه ويرغب في الإفصاح عنه بأي شكل!
ذهب إلى منطقة مهجورة، وحفر حفرة عميقة، وانحنى نحو فوهتها وهمس قائلًا: “الملك ميداس له أذنا حمار.. الملك ميداس له أذنا حمار”، ثم ردم الحفرة بسرعة وغادر بعد أن أحس بالراحة.
بعد فترة نبتت في مكان الحفرة مجموعة من سيقان الغاب، وكلما هبت الريح وتمايلت السيقان خرج منها همسًا يقول: “الملك ميداس له أذنا حمار.. الملك ميداس له أذنا حمار”، وهكذا ذاع السر الذي دفنه الحلاق!
هذا ما يفعله الجشع والطمع
تؤخذ أسطورة الملك ميداس مثالًا لمأساة اجتماع الجشع والغباء لدى المرء (لا سيما إن كان في منصبٍ قيادي أيًا كانت درجته)، تلك التي تؤدي قطعًا إلى أن يُصبح عبدًا لرغباته، مُدعيًا للقوة والحكمة، دون تقدير لعواقب الانسياق وراء هذه الرغبات أو السعي لتلبية المزيد منها، وإن كانت كارثية!
كذلك تؤخذ الأسطورة نموذجًا لما أصبح يُعرف بلعنة الموارد أو مفارقة الوفرة Paradox of plenty، أعني مفارقة عدم تحقيق الدول التي لديها وفرة في الموارد الطبيعية أو البشرية أو السياحية لمعدلات النمو الاقتصادي المرجوة،
أو عدم تحقيقها للمستوى الحضاري المأمول (سواء من حيث النظام السياسي والديموقراطية، أو من حيث البحث العلمي والتكنولوجيا والتعليم والرعاية الصحية).
صياغة معاصرة لأسطورة ميداس
مثال ذلك، أن مُصدري النفط في البلدان الغنية به كانوا يعتقدون أن عوائد النفط الضخمة ستتيح لهم قاعدة مستديمة لاقتصاد ما بعد النفط، بما يتضمنه من قضاءٍ تامٍ على البِطالة، وتحقيقٍ للأمن القومي، وبعثٍ للاستقرار السياسي، وتجاوزٍ لمثلث الفقر والجهل والمرض.
باختصار فإن رخاء النفط، كما تصوروه، كان من شأنه أن يتيح لهم فرصة الالتحاق ببلدان العالم الأول، ولكن اتضح أن هذه التنبؤات والتكهنات لم تكن سوى صياغة معاصرة عامة لأسطورة ميداس.
إذ لم يؤد الذهب الأسود إلا إلى نُظم سياسية شديدة المركزية، تفتقر لا إلى الديموقراطية فحسب، بل إلى الاستقلالية في اتخاذ القرارات المؤثرة إقليميًا ودوليًا، وتكاد تنعدم لديها مقومات البحث العلمي نتيجة الارتكان إلى البرامج التنموية المُعدة سلفًا،
والمُخرجات التكنولوجية الجاهزة لدول الغرب، وهو ما عبَّر عنه خوان بابلو بيريز ألفونزو (Juan Pablo Pérez Alfonzo) (1903 – 1979)، وهو من مؤسسي منظمة الأوبك، بقوله: “ما النفط إلا براز الشيطان، إننا نغرق في فضلات الشيطان!”.
ثمة ميداس فردًا كان أو نظامًا حاكمًا
كذلك الحال بالنسبة إلى دولٍ أخرى غنية بموارد مختلفة، مثل الدول الإفريقية والآسيوية الغنية بالثروات السياحية والبحرية والمعدنية والبشرية، إذ يُصنف صندوق النقد الدولي أكثر من خمسين دولة بوصفها دولًا غنية بالموارد، ومع ذلك فإن ما يقرب من ثلاثين دولة منها تُصنف على أنها منخفضة أو متوسطة الدخل!
أخيرًا، ثمة دراسات فسَّرت تلك اللعنة أو المفارقة بأنها تشبه الصعوبات التي يُواجهها الفائزون باليانصيب، أو الحائزون لثروات مفاجئة، سواء عن طريق الميراث أو السرقة، في التعامل مع الآثار الجانبية المعقدة للثروة التي هبطت عليهم، وما أكثر هؤلاء في عالمنا العربي، فحيثما وليت وجهك فثمة ميداس، فردًا كان أو نظامًا حاكمًا!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا