مقالات

سلسلة شرح الفلسفة السياسية ( الجزء الثاني ) : النظام السياسي للحكم

السياسة و النظام الحاكم

قلنا في المقال السابق إن قُوى الإنسان المدركة هي الحس والخيال والوهم والعقل، والمحركة هي الشهوة والغضب والعقل. وبناءً عليه تكون الكمالات واللذات الإنسانية، إما كمالات عقلية كمعرفة الحق وعمل الخير، وإما كمالات جسدية بأنواعها، والجسدية إما شهوية حسية كلذة المأكولات والمشروبات والنكاح، أو شهوية خيالية ووهمية كلذة المال واليسر وحب الناس وبعض الفنون، أو غضبية حسية كالغلبة الجسمانية، أو غضبية خيالية ووهمية كالغلبة المعنوية التي تكون في نيل الكرامات والألقاب أو المناصب. وهذه الكمالات الجسدية منها ما هو ضروري ومنها الزائد عن الضرورة.

وقلنا إن كمالات الإنسان الحقيقية هي العقلية، لأن العقل هو المميز له، وهو الذي يعلم ما فيه كماله، وهو الباقي معه، وأنها أرقى الكمالات، يليها الوهمية والخيالية، ثم الحسية أدناهم.

وقلنا إن الإنسان طالب للكمال، ونيله للكمالات لا يكون إلا بالاجتماع مع غيره، فهو كائن اجتماعي. فغرض الاجتماع إذن هو نيل كل فرد ما فيه كماله ولذته وسعادته، أي تكامل الجميع وسعادتهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقلنا إن الاجتماع يؤدي للتزاحم، بأن يريد أكثر من فرد نفس الشيء في نفس الوقت، فلا بد من قانون ينظم ذلك حتى لا تضيع الحقوق والواجبات، والقانون يحتاج لمشرع يضعه، ولمنفذ ينفذه، وهؤلاء هم الرؤساء في المجتمع، فتنشأ السياسة والنظام السياسي.

والنظام السياسي قد يريد سعادة الجميع –وهو نفس سبب الاجتماع أصلًا- أو سعادة الأغلبية، أو الأقلية، أو فرد واحد.

وبالتالي فالأنظمة السياسية التي يمكن أن تنشأ قد تكون:

النظام  الذي يحركه العقل ويريد سعادة الجميع :

والنظام الذي يحركه العقل يطلب السعادة للجميع ضرورة، بل إن سعادة الجميع لا تتحقق إلا إن كان العقل هو المحرك والحاكم والحق والخير هما المطلوبان. فالعقل وحده هو القادر على معرفة الحقوق والواجبات، وإعطاء كل ذي حق حقه، أي تحقيق العدل، فيسعد الجميع. كما أن سعادة الإنسان الحقيقية هي في الكمالات العقلية كما سبق. والعقل نتائجه واحدة، وهي معرفة الحق وهو واحد، وعمل الخير الحقيقي وهو واحد؛ فيمكن أن يتحد الجميع عليه فيسعدون.

وهذا النظام يقوم عندما يكون المشرّع هو الأعلم بحقوق كل فرد، والمنفذ هو الأعلم أيضًا بحقوق كل فرد والأقدر على حفظها ورعايتها، والجمهور متقبل لذلك، راض به ويريده، وهذا هو ” النظام الفاضل “، وسنتحدث عنه بمزيد تفصيل في هذه السلسلة. ومثال هذا النظام حكم الأنبياء وبعض المصلحين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نظام يحركه الشهوة والغضب ويسعى لتحقيق سعادة الجميع:

وهو غير قادر على تحقيق السعادة الحقيقية للجميع لأنها عقلية كما سبق، إلا أنه يحاول تحقيق اللذات الشهوية والغضبية للجميع، فإن اكتفى بالضروري منها فقط، وهو واحد ومشترك بين الناس قام “نظام الضرورة”، أو إن لم يكتف وطلب أكثر من الضروري فهو يفشل في تحقيق اللذات للجميع، إذ يحدث تفاوتات واختلافات فينشأ نظام آخر. ومثال نظام الضرورة بعض المجتمعات البدائية التي تتحد للحصول على الضروري الذي يقيم حياة أفرادها.

نظام يحركه الشهوة والغضب ويسعى لتحقيق سعادة الأغلبية:

وقد يسعى هذا النظام من البداية لتحقيق سعادة الأغلبية فقط، وقد يريد تحقيق سعادة الجميع دون الاكتفاء بالضروري فقط. والرغبات الشهوية والغضبية كثيرة ومتنوعة ولا تتناهى، فيرغب كل فرد في شيء خلاف الآخر، وهذا النظام يريد سعادتهم جميعًا؛ فيعطي إذن لكل فرد حريته في ذلك، فهو ” نظام الحرية الفردية “، ولما كان الجميع أفرادا أحرارا كانوا إذن متساويين، فلم يكن لأحدهم أفضلية على الآخر في الحكم أو اتخاذ القرارات، فيكون الحكم للجميع أي للشعب، وهذا هو “حكم الشعب” أي “الديمقراطية”، ولأن من الأقلي في الوجود أن يتفق الجميع على أمر واحد فيصبح الحكم للأغلبية، فيسمى أيضًا “نظام الأغلبية “.

وهذا النظام مشهور، ودعاته حديثا هم “الليبراليون”، وإن كان ليس كل نظام يدعّي ذلك يطبقه في الحقيقة، فهناك مجتمعات تتغنى بالحرية وفيها عبودية مقنعة. أيضًا ليس هو النظام الوحيد الذي يوجد فيه حرية ومساواة واحترام لرأي الشعب.

نظام يحركه الشهوة والغضب ويسعى لتحقيق سعادة الأقلية:

وقد يسعى لتحقيق:

لذاتهم الشهوية الخيالية والوهمية، وهو “نظام اليسار” أي اليسر المادي، وهذا مثاله المجتمعات الرأسمالية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لذاتهم الشهوية الحسية، وهي أحط أنواع اللذات، إذ هي للحيوانات الدنيئة كما للإنسان، فهو “نظام الخسة” أو “نظام اللذة” كلذة المنكوح والمأكول والمشروب والملبوس، وهذا مثاله المجتمعات الاستهلاكية.

لذاتهم الغضبية الخيالية والوهمية، وهو “نظام الكرامة” يسعى فيه الناس للكرامة والعزة وحسن الذكر والسمعة، ويتسابقون في ذلك بكل الوسائل والأمور المادية والمعنوية، وقد يكون مثال ذلك المجتمع العربي قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، إذ كان مجتمعاً يفتخر بالحسب والنسب والبطولة، وغير ذلك من سبل نيل الكرامة. ومثاله أيضًا النظم القومية الحديثة.

لذاتهم الغضبية الحسية، وهو “نظام الغلبة”، وهو نظام القوة العسكرية والأمنية الباطشة.

وقد يتركب نظام الأقلية من أكثر من واحد مما سبق، فيطلب مع الشهوة غضبًا، وهكذا.

وأخيرًا النظام  الذي يحركه الشهوة والغضب ويسعى لتحقيق سعادة فرد واحد:

ولا يكون ذلك بداهة إلا بقهر باقي الأفراد، وهو “نظام الاستبداد” أو “الديكتاتورية”، وهو نظام الغلبة الحقيقي. وهو على الطرف المقابل تماما للنظام الفاضل، فالأول يريد سعادة فرد واحد والثاني الجميع، والأول يريد لذات شهوية وغضبية والثاني عقلية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والرؤساء في كل نظام هم الأعلم بما يحقق مصلحة وتكامل هذا النظام، والأقدر والأكفأ على تنفيذ ذلك، فهم في النظام الفاضل الأعلم بالحقوق والأعقل والأعدل، وفي نظام الاستبداد مثلا الرئيس هو الفرد الأعلم بكيفية الغلبة على باقي قوى المجتمع وقهرها والأقدر على ذلك، وهكذا.

 التحول من النظام إلى نظام اخر

وقد تحدث تغيرات في كل نظام تجعله يتحول لغيره، بعضها تغيرات ترجع لطبيعة النظام، وبعضها عوامل خارجية تساعد في ذلك أو تصعبه، وذلك كالآتي:

النظام الفاضل متى قام على الحقيقة فزواله وتغيره صعب.

نظام الضرورة من الصعب ان يستمر في طلبه للضروري فقط، فهو نظام تحركه الشهوة والغضب، وهما لا تكتفيان، والإنسان طالب للكمال والأفضل دائما، ومتى ساعدت العوامل الخارجية ذلك أسرع في تحوله، وهو يتحول لأي نظام آخر من الأنظمة غير العاقلة.

نظام الحرية يمكن أن يتحول لأي نظام آخر، فالحرية والنظام بينهما تناقض، والنظام ضروري للاجتماع، والاجتماع ضروري للإنسان، فتتراجع الحرية وينشأ أي نظام آخر حتى وإن احتفظ بشعارات الحرية، وكل الأنظمة الأخرى بذرتها موجودة في نظام الحرية، فحسب تركيبة المجتمع ونخبته وأصحاب التأثير فيه؛ يتحدد شكل المجتمع الذي سيتحول إليه.

نظام اليسار يتحول لنظام اللذة، لأن اليسار والمال غير مطلوبين لنفسهم، بل لنيل اللذات الحسية.

نظام اللذة تنعم فيه الأقلية بنعيم عظيم، بينما الأغلبية تعوز ذلك، فإن حدث أن اجتمعت الأغلبية لسبب ما وأدركت قوتها فهي الثورة، والتي ينتج عنها نظام الحرية والأغلبية، لأن الثورة تطالب بالتحرر من النظام، ولأنها تطالب بحقوق الأغلبية.

نظام الكرامة يتحول لنظام الغلبة، إذ يتحول طلب الغلبة الباطنة المعنوية لغلبة ظاهرة حسية.

نظام الغلبة يتحول لنظام الاستبداد، إذ يتغلب كل ذي قوة على الأضعف منه، حتى ينتهي الأمر لمتغلب واحد يقهر الجميع، فتقوم دولة الاستبداد.

ونظام الاستبداد قد ينتهي بالثورة، إن تحقق شرطاها السابقان أيضا، وقد ينتهي بأن ترث أقلية ما المستبد، فيتحول لأحد نظم الأقلية.

وأيضًا نظام اليسار قد يتحول للكرامة والكرامة لليسار، إذ قد تستغل الأقلية صاحبة اليسار يسارها لنيل الكرامات، وقد يستغل أصحاب الكرامات وضعهم لنيل اليسار والمال.

أسباب أخرى لتحولات النظام

هذه هي التغيرات التي تحدث في أكثر الأحيان، لأنها تعود لحقيقة وطبيعة كل نظام من الأنظمة، لكن قد تحدث تغيرات مختلفة بسبب تدخل عوامل أخرى، مثل الكوارث الطبيعية أو الغزو الخارجي، أو ظهور نخب مؤثرة في المجتمعات تدعو لنظام معين وتسعى لتحقيقه، فيقبلها المجتمع ويقبل نظامها.

لكن كيف يقوم النظام الفاضل؟ وكيف يمكن التأثير في المجتمعات؟ تابعوا بقية السلسلة إن شاء الله تعالى.

لقراءة الجزء الأول من السلسلة  أضغط هنا

اقرأ ايضاً .. كيف تكون باراً بالمجتمع ؟

اقرأ أيضاً .. الذكاء الإجتماعي

اقرأ أيضاً .. الزواج كمال أم انتحار ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة