العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السادس
المدرسة المشَّائية: (4) الكِنْدِي: فيلسوف العرب الأول
“رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى” (3)
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (الجزء الخامس)، عن أول فلاسفة المدرسة المشَّائية: فيلسوف العرب الأول الكِنْدِي. ولنواصل –في هذه الدردشة– بقيةَ حديثنا عن الكِنْدِي وكتابه: “رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”.
موضوعُ الفلسفة الأولى ومنهجها
أما موضوعُ الفلسفةِ الأولى: فهو غير هيولاني، يعني غير مادي، ولا تعلقَ له بالمادة، وليس له مثالٌ في النفس، ويوصلُ إليه بالأبحاثِ العقلية. ويقول الكِنْدِي: “وبحق ما كان الوجود وجودين: وجود حسي ووجود عقلي، إذ الأشياء كلية وجزئية”. والفلسفة هي علم الكلي لا الجزئي، وموضوعها هو الكلي المجرد.
أما منهج البحث في الفلسفة الأولى: فهو المنهج البرهاني العقلي، منهج المشي من المقدمات إلى النتائج. ولا بد أن ينتهي البرهانُ إلى بَدَهِيَةٍ تعودُ إلى أوائل العقل، لأن ما لا يصل الإنسانُ إلى علم أوائله لا يمكن أن يعلمه. ولا يبرهن على أوائل العقل، فهي تكونُ واضحةً بذاتها (مثل قانون الهوية وقانون عدم التناقض، والكل أكبر من جزئه، إلخ).
المعرفة البرهانية ليست في كل مطلوب، لأن البرهان لا يكون إلا في بعض الأشياء، ولأنه لا يمكن أن يكون لكل برهان برهان، فلا نطلب في أوائل البرهان برهانًا، وإلا سارَ ذلك إلى غيرِ نهايةٍ، واستحالَ العلمُ على الإطلاق، فمنهجُ ثبوتِ الرؤية الكونية إلى الوجود عند الكِنْدِي –شأنُه شأنَ المشَّائين جميعًا– البرهانُ العقلي، وكذلك منهجُ إثباتِ هذه الرؤية للآخرين، في الإلهيات، وفي الفلسفة الأولى، الدليلُ العقلي أي: تصورٌ فلسفيٌ، دونما جدلٍ أو حِجَاجٍ كلامي، ودونما حاجةٍ إلى نصوص نقلية، كما يفعل المتكلمون. كما أنه ليس إلهامًا أو إشراقًا، كما هو منهج العرفاء. (أما هل وُفِقَ الكندي في تطبيق منهج البرهان على المسائل التي بحثها أم لم يوفق؟ فهذه مسألة أخرى).
إثباتُ وجودِ الواحدِ الحقِ وأنه فوق كل المفهومات
وفقًا للمنهج العقلي كذلك، حاولَ الكندي إثباتَ وجودِ الله أو العلة الأولى، وحاولَ بيانَ أهم صفاته أي صفة الواحدية: “فالواحد الحق لا هو ذو هيولى (مادة)، ولا ذو صورة، ولا ذو كمية، ولا ذو كيفية، ولا ذو إضافة، ولا موصوف بشيء من باقي المقولات، ولا موصوف بشيء مما نفى أن يكون واحدًا بالحقيقة، فهو إذن وَحْدَةٌ فقط مَحْضٌ، أعني لا شيء غير وَحْدَةٌ، وكل واحد غيره فمتكثر”، فالله تعالى فوق كل المقولات والتصورات والمفهومات ووحدته وحدة مطلقة.
فكرة التوحيد
الواحدُ الحقُ هو العلّةُ الأولى، ولمْ يَفِدْ الوَحْدَةَ من غيره، بل هو بذاته واحدٌ: “والواحدُ الأولُ الحقُ هو الأولُ الممسكُ بكل ما أبدع، فلا يخلو شيءٌ من إمساكه وقوته إلا بَادَ ودَثُرَ. جلَّ وتعالى عن صفاتِ الملحدين”. والأشياءُ تتهوَّى- أي تُوجَدُ ويصبح لها هُويَّة- بفعل الواحدِ الحق، فهي حادثة. والواحدُ الحقُ هو الأولُ الذي “ليست وحدتُهُ شيئًا غيرَ هويتِه”، والوَحْدَةُ تفيضُ منه على كلِ موصوف بالوَحْدَة. والصفاتُ التي يذكرها الكندي للواحد هي في الحقيقة: الصفات التي يرى أنْ تطلقَ على الله تعالى. هكذا يصف الواحد وصفًا فلسفيًا لا صلة له ببيثاغوراس أو أفلاطون أو أفلوطين، من فلاسفة اليونان الأقدمين. كما أن العالم حادث عن الواحد، تمامًا كما تقولُ نظريةُ الخلقِ الدينية.
حدوثُ العالمٍ: تناهي الجِرْم والزمانِ والحركة
وعلى ذلك المنهج العقلي –وحده– أقامَ الكندي أدلةً عقليةً على حدوث العالم وتناهي الزمان من أوله وآخره، وأقام الأدلةَ على تناهي جِرْم (جسم) العالم والحركة، وفي ذلك يقول: “فالجِرْمُ والحركةُ والزمانُ لا يسبق بعضُها بعضًا أبدًا”. وغرضُ الكندي إنكارُ القولِ بقدم العالم خلافًا لأرسطو، فلم يكن فيلسوف العرب الأول الكندي تابعًا كاملَ التبعيةِ لفيلسوف اليونان المعلم الأول أرسطو.
لما كان الجرم ذا أبعاد ثلاثية وهو في زمان ومكان فهو متناهٍ: له أول وله آخر. وحدوث المادة والزمان والمكان برهان فلسفي على نظرية الخلق الدينية، دونما حاجة إلى آيةٍ قرآنيةٍ، أو حديثٍ نبوي، للتعبير عن التصور الديني للعالم.
ما بين أرسطو (الفلسفة اليونانية) والكِنْدِي (الفلسفة الإسلامية)
يمكن القولُ –مع محمد عبد الهادي أبو ريدة– إنه على حين أنَّ كتابَ “ما بعد الطبيعة” لأرسطو، وهو المسمى “في الفلسفة الأولى”، عبارة عن مجموعة مقالاتٍ تعوزُها الخطةُ المرسومةُ وأنَّ ترتيبَ هذه المقالات موضعُ نقدٍ، فإنَّ كتابَ الكندي، “في الفلسفة الأولى”، له خطةٌ مرسومةٌ وفيه تبويب، ويسير سيرًا مُنظمًا نحو غايةٍ معينةٍ هي: إثبات وجود الله، أو العلة الأولى، التي لأجلها يسمي الكتاب “في الفلسفة الأولى”. ويمكنني أنْ أُضيفَ: ومن المدهش أنَّ فيلسوفَ العربِ الأولَ الكندي كان مستقلًا تمام الاستقلال أمام أرسطو المعلم الأول.
ثم جاءتْ –من بعد الكِنْدِي– عبقريةٌ فذةٌ أخرى وجدتِ الطريقَ مُمَهَدًا –بفضل جهود الكِنْدِي الجبَّارة– فسارتْ فيه وأبدعتْ نظرياتٍ فلسفيةً أخرى. المعلم الثاني: الفيلسوف أبو نصر الفارابي. وهذا هو موضوع دردشتنا القادمة، بإذن الله.
مقالات ذات صلة: