مقالات

فوبيا الانتحار

أصبحت كلمة الانتحار أكثر إثارةً لحفيظة البعض من كلمات مثل التحرش الجنسي أو الاغتصاب أو كشف العذرية القهري، لا أدري حقًا هل زادت معدلات الانتحار عن الأعوام الماضية أم لا؟! ولكن الواضح أن الضوء المُسلط على الفعل قد زاد، إن كان لظهوره الفج في الشوارع على لوحات الإعلانات كدعاية أو كضحية، أو لزيادة مساحات التواصل ومعرفة الأخبار فزاد كم المعلومات الشخصية التي تصلك عن أشخاص لم تعرفهم من قبل في حياتك، مما وضع تلك الظاهرة فى ميزان الرأى العام بين مكفر ومرحب ورافض وداعم ومتفهم ومبرر، كل ينطلق فى رأيه من موضع ضحية الانتحار من النعيم والجحيم.

لست مهتمة بالحديث بالأخص عن ظاهرة الانتحار وردود الأفعال عليها إلا كمثال على مدى بؤس فكرة تأليه الذات البشرية لنفسها، ذلك التفكير القاصر المتضح هنا في قذف تهم الكفر على الغير بدون معرفة كافية حتى للشريعة، ولا أقصد هنا بالطبع الجماعات التكفيرية وأصحاب اللحى الزائفة فقط -فهؤلاء أصعب من أن يثير تفكيرهم حديث كهذا- بل إن هذا التفكير قد تخطى ذلك ليصبح شائعًا فتجد الجميع وقد أصبح يحكم على بواطن غيره ويدَّعي في قرارة نفسه أنه عالمٌ ببواطن سر الغير، فيرثى حزنًا المفقودين بشارة سوداء في الظاهر، وفى الباطن يحمد نفسه على ما فيها من فضل جعلها لم تقع فيما وقع فيه دونه.

من شيم ناقصي الصفات انتقاد الغير بهذا النقص لأجل إحساس بالعلو ودنو الغير، ربما لذلك جملة “شعب متدين بالفطرة” تبدو كمزحة من مجتمع يرتكب ما لا يرتكبه الحيوان ناقص العقل من جرائم في حق بعضه البعض، ولكنها على بساطتها تبين رؤية نسبة كبيرة من الشعب لنفسها، مهما افتروا في ظلم ذاتهم ومهما زاد جبروتهم على من سواهم، يرى كل شخص منهم في نفسه المؤمن العارف بالله، الذي وإن حاد عن الطريق حينًا سرعان ما يعود، فيجد في نفسه مقام الحاكم بأمر الله، القاضي في شئون خلقه، لا يحل لنفسه فقط رمي غيره بهتانًا بالكفر، بل يستلذ بذلك إشباعًا لغروره الشخصى، فهم من قال عنهم ابن سينا “ولا تصغ إلى من يجعل النجاة وقفًا على عدد، ومصروفة عن أهل الجهل والخطايا صرفًا إلى الأبد.
واستوسع رحمة الله”، وهؤلاء هم من ظنوا أن الله قد أعطاهم مفاتيح جنانه، فجعلوا لأنفسهم الحكم بالإيمان والكفر، دون أن يتريثوا فيعلموا أنه ليس من آمن يثق فى كونه من أهل الجنة، فكيف بنا نقضى ونحكم على دوننا وننسى أن الحكم ما هو إلا لله .

نعم عزيزي المتدين العالم بالمعلومة التي تخفى علينا كعوام وهي أن قتل النفس محرم كقتل الغير، وأتمنى أن تكون عالمًا أيضًا بحديث رفع القلم عن المجنون، لا أفتي بالطبع بأن أي مريض اكتئاب قد يصل إلى حد الجنون، ولا أن كل منتحر يكون مكتئبًا، ولست أحاول بأي حال من الأحوال وضع تبريرات للانتحار، ولن يستطيع أحد ادّعاء الجنون على ربه لينال المغفرة من قبح عمله أيًّا كان، فلا أملك من العلم في هذه النقطة سوى بعض المقتطفات الطبية التي أوضحت أنه يجمع بين المرض النفسي ومرض كالسرطان مثلًا عامل مشترك هام، ألا وهو أنه لا يمكن الوقاية منه بمصل معين، وقد تتدخل في كلاهما العوامل الوراثية أو الظروف المحيطة وخلافه، ولكن الثابت أنك عزيزي المكّفر لا تستطيع التنبؤ -غالبًا- باحتمالية إصابتك بإحداهما وأي نوع قد يصيبك، ولا تعلم حتى بوضعك الحالي من التعقل والإيمان والورع ما تحويه جيناتك من استعداد للمرض النفسي بالأخص الذي يندرج تحته الاكتئاب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أثق بعلمك بحقيقة أن العدل المطلق للإله سيحاسب كلًا على ما وهبه وكلفه به، ولن يكلف نفسًا إلا وسعها، وكل ما أوتيت من عقل أوعلم فهو وبقاؤه هبة من عند خالقك لم تصنعها لذاتك، ولا تستطيع بالطبع منحها أو سلبها من غيرك، فلن تستعجب الآن استنكاري لخروجك من نطاق نفسك البشرية الفانية إلي الذات الإلهية بما تدعيه من أفضلية على خلقه بجعل نفسك قاضيًا على أبواب الجنة تُدخل من تشاء وتمنع من تشاء، وكأنك مخلوقًا من نار وهو من طين، متناسيًا أن كلاكما من نفس السلالة الفانية التي ستحاسب في اليوم الآخر أمام بارئها على ما اختارته من أفعال كما قال تعالى: ” وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ“.

لا أسألكم التزود بالعلم الكافي قبل الحكم على الأشخاص، بل لا أسألكم الحكم بالمرة على من سواكم، وإن كان ذلك من باب التماس العذر، فحتى ذلك من نصيب من هم جزء منك فيجوز بينكم العتاب ويجب بينكم التماس الأعذار، أو على الأقل مع من تقاطعت حيواتكم لسبب ما فأثر على حياتك متعمدًا، أما من هم خارج نطاقك بربي ليس لك أدنى سلطان على حيواتهم ومماتهم، جل ما تستطيعه هو العمل بعلمك الذي اكتسبته مما تتلقى من تحليلات للأخبار بعد الفلترة العقلية، والاعتناء بمن يهمك أمرهم لكي لا تندم على اختيارك لتجاهل استغاثات من تتألم لجروحهم، وأن تعلم أهمية توجيه كل محتاج للمساعدة ومساندته بدلًا من التخلي عنه، خاصةً وإن كنت تعلم أن توازن تلك الحياة التي تشغلك قد يختل إن أصابه مكروه، وأن تمنع استنفاذ الطاقات الواجب لكي تخالف النفس هواها في الخلود وتختار الفناء، واترك ما على الله من حسابهم لله، وأرجوك فقط (دع الخلق للخالق).

آية سعيد

طالبة بكلية الطب _ جامعة المنصورة

عضوة ومحاضرة في فريق مشروعنا بالعقل نبدأ المنصورة

مقالات ذات صلة