مقالات

هل نحتاج إلى النسيان؟

أحيانًا أتساءل هل نحتاج إلى النسيان؟ وأقارن بين النسيان والتذكر، في حياة الفرد والمجتمع، بل الإنسانية جمعاء.

يقف النسيان في عقلي مدافعًا عن نفسه ببسالة، فماذا لو وثقنا كل لحظة بصورة وفيديو؟ ماذا لو كانت ذاكرتنا كـ”هارد دسك” يخزن ولا يمسح أبدًا، قد يكون لذلك فائدة كبيرة، وبخاصة إذا كانت لدينا تلك القدرة في تذكر المعلومات لاختبارات الثانوية العامة، وكذلك لحظات السعادة وأوقات الهناء التي سنكون دائمًا سعداء بتذكرها واضحة المعالم كأننا نعيشها لثاني مرة، كمشاهدتك مثلًا لفيديو يوم عرسك، أو استلامك شهادة تخرجك إلخ.

كل ذلك عظيم بالفعل، لكن على الجانب الآخر لا ننسى أننا سنكون قادرين على تذكر آلامنا بدقة، وبلحظاتها المريرة، وصورها البشعة، وسنتذوق في حلوقنا كل شهقة ألم، وتتحرق عيوننا بكل دمعة حزن، هنا يقف النسيان العظيم متباهيًا بنفسه فخورًا بكونه الطبيب الأول والأنجح للحزن.

ثم على مستوى الإنسانية كلها لو سجلت الإنسانية لحظات عظمتها ووصلت إلى مستوى من النجاح المادي والإنساني الذي لا مثيل له، واحتفظت بصور هذا النجاح الباهر في ذاكرتها، ألن تصل إلى سؤال: ماذا بعد؟ ألن تفقد اهتمامها وحيويتها إلى الخطوة القادمة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن الإنسان ينسى أنه ضعيف ليشعر بالقوة فينجز.

وينسى فشله فيكرر المحاولة لينجح.

وينسى حزنه فيصبح قادرًا على الفرح.

وينسى آلامه فيصبح قادرًا على التعافي.

إن البشرية تنسى أو تتناسى أحيانًا مآسيها لتتعالى عليها وتكون قادرة على الاستمرار، فماذا لو كانت البشرية قادرة على تذكر الحروب العالمية في العصر الحديث كأنها ماثلة أمام أعينها؟ أو مثلا غير قادرة على نسيان بعض الأمراض العالمية الفتاكة التي خلفت مآسي مخيفة؟ آخرها وباء كورونا الذي أدخل الخوف علينا جميعًا، وقد عايشناه وعايشنا الخوف المرافق له، وكيف حبسنا في منازلنا وجعل الحذر سمة التعامل بين البشر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنني أظن أن الإنسان ينسى ليتعافى ويتجدد، وكذلك الإنسانية، وإلا لو صرنا أسرى لذاكرة حديدية تتذكر كل شيء كأنها تراه لأفزعنا ما يمكن لهذه الذاكرة في لحظة واحدة أن تقذفه في أذهاننا.

كما أننا ننسى لنعيش لحظاتنا الحالية وإلا صرنا أسرى الماضي المصوَّر بكل دقة، وربما كان النسيان أحد أعظم صفاتنا، ولكل شيء عيب، فأحيانًا ننسى ما لا نحب أن ننساه لكننا شاكرين في المقابل أننا لا نتذكر أشياء لا نحب تذكرها، والبشرية كذلك في امتدادها الطويل، فربما وقعت الحادثة وبعد جيل أو جيلين لا يتذكرها أحد ولا تكون ماثلة في الأذهان.

ربما يكون التاريخ كذلك، تقوم المجتمعات وتنمو وتزدهر وتتقدم ثم تضعف وتترهل وتنحل، وتقاوم وتصارع لتقف على قدميها وتعالج مشكلاتها، لتنمو وتزدهر وتتقدم ثم تضعف، إلخ.

إلا أننا في العصر الحديث أصبحت أذهاننا مرهقة بتسجيل الأحداث ليس في كتب تاريخ بل في صور فوتوغرافية وفيديوهات تسجيلًا حيًا، وكما كان التاريخ يزور وتتلاعب به الأقلام في محض كلمات أو أسطر قليلة، أصبح كذلك يتم التلاعب بالصور والفيديوهات، وأصبح ردَّ الفعل المندفع المصدق لزيف الصورة أقوى وأخطر، مما يجعل موقفنا ضعيفًا أمام النسيان، الذي يملك الشجاعة أن يقول: لو كنتم تنسون كما في الماضي لكان أفضل، لكنكم جحدتم فضلي وأصبحتم تسجلون كل شيء صوتًا وصورة فذوقوا ما جنت أيديكم.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيف يمكن علاج التشتت الذهني؟

ذكريات غير حقيقية وغير صحيحة

أعاني من النسيان

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمد السيد قياسة

مدرس اللغويات – كلية اللغة العربية بالمنصورة – جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة