إصداراتمقالات

فهم النص الدينى بين التراث والتجديد (2)

نبدأ بتوضيح هام، وهو أنّ العقل البرهاني يختلف عن العقل الظني أو الهوائي أو العرفي أو النسبي.

فالمقصود بالعقل البرهاني هو ذلك الذي يعتمد في حكمه على أدلة ذات مقدمات يقينية وحقيقية مطابقة للواقع؛ بديهية أو موضحة بالبديهية، فتكون نتائجه يقينية وحقا. فهذا العقل لا يتعامل مع آراء، بل مع حقائق يقينية علمية هي الأساس الذي يقوم عليه العلم البشري بأكمله، وإن أنكرناها فإننا ننكر إمكانية المعرفة والعلم البشري بأكملهما! وقد نفصل القول في ذلك في موضع آخر.

فإذا ثبت لهذا العقل وجود نصّ ديني يقيني الصدور، وموافق للعقل في كليات العقيدة والشريعة يقينيّة الدلالة، فإنه يجزم بأنّ هذا النص من الإله، وأن هذا الدين حق. وقد فصلنا ذلك في المقال السابق.

كما سيتجه العقل بعد ذلك لهذا النصّ كي يستكمل منه جزئيات العقيدة العاجز عن البحث فيها وحده، وسيأخذ منه التشريعات والسلوك، فهو من مبدأ الكون العالم بالخير لعباده.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ويترتب على ذلك كله تقديسه لهذا النص بالضرورة، ومحاولة فهمه والاستفادة منه لأقصى درجة ممكنة.

إلا أنّ هذا النص المقدّس سوف تنطلق كثير من الهمم من أتباع هذا الدين في محاولة لفهمه وتفسيره وشرحه، وهنا قد نواجه مشكلة هامة، وهي هل هذا الفهم صحيح أم لا؟ وهل هذا الفهم مقدّس مثلما كان النصّ نفسه مقدّسا؟ وهذا سؤال في غاية الأهمية.

ونظرا للتبجيل الذي يحيط ببعض علماء الدين فإن البعض قد يخلط بين قولهم وبين صريح النصّ، أو يوسع دون أن يشعر من مظلة القدسية لتشمل أشخاصا وآراء غير مقدسة، وقد يفهم البعض النصّ الدينيّ فهما ظنّيًا أو فهما عرفيًّا ثم يعتقد أنّ فهمه هو الصحيح ويخلط فهمه بالنص وقدسيته، وقد يتعصب البعض لفهمه هذا أو فهم من يتبعه، ممّا قد يؤدي إلى مشاكل مجتمعية وحضارية وفكرية.

على الطرف الآخر قد يحاول البعض التمادي في رفض أي تفسيرات سابقة أو فهم سابق للنص، أو أي ثوابت مسبقة أثناء التعامل مع النص، حتى يرفض دون أن يدري بعض الثوابت الصريحة في النص نفسه، في محاولة منه لتحرير النصّ من بعض الأفهام الخاطئة التي التصقت به.

ومع تقديم حسن الظن بالطرفين؛ فإن مسعى كل منهما إن لم يكن مؤيّدًا بالأدوات السليمة قد ينحرف عن مساره، فبين من يحاول جاهدًا فهم النص متجهًا للتراث، وبين من يحاول أن يطالب بالتجديد وعدم الجمود؛ قد تحدث الأخطاء. بين إفراط وتفريط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن ما هو الأسلوب السليم عقلًا في فهم وتفسير النصوص الدينية؟

إن العقل المؤيد بالأدلة البرهانية اليقينية هو الذي يبحث عن الدين الصحيح كما سبق، كما أن هذا العقل نفسه هو الذي يجب أن يسعى لفهم هذا الدين.

فمن الأمور التي يجب أن يراعيها هذا العقل في فهم النص الديني هو عدم مخالفة فهمه للبديهيات العقلية.

كما يجب ألا يخالف فهمه ما قامت عليه الأدلة البرهانية اليقينية، فمن غير المعقول أن يفسر أحدهم النص بأن الله ليس بواحد وقد قام البرهان العقلي على وحدانيّته، وكان هذا البرهان وهذا الاعتقاد سببا للحكم بصحة هذا النص أصلا! وأنه من الله!

أيضا من الطبيعي ألا يخالف التفسير النص نفسه! فليس بمعقول أن تخرج تفسيرات تخالف مبادئ العقيدة أو فروعها الثابتة بالعقل البرهاني، أو بالنص قطعيّ الصدور والدلالة. فيجب أن تعرض التفسيرات وكذلك بعض النصوص ضعيفة الحجّية في الصدور أو الدلالة على النصوص قطعيّة الصدور والدلالة وألا تخالفها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كما أنّ فهمنا للجزئيات يجب ألا يخالف الكليات الثابتة، وألا يعارضها أو يناقضها، لاستحالة ذلك عقلًا وشرعًا.

وأيضا ألّا تفسر النصوص الدينية بنحو يخرجها عن موضوعها الذي هي بصدده، ويحملها ما ليست هي في مقام الحديث عنه أصلًا.

ولا يجب أن يخرج النص عن ظاهره أو يتم تأويله أو إخراجه عن دلالته اللفظية الحقيقية إلى المجازية؛ إلا بدليل عقلي برهاني أو بدليل نصي آخر، وبدون أن يخالف ذلك أيضا عادة لسان القوم في التجوز؛ فيجب مراعاة الجانب اللغوي في فهم النص بالتأكيد. ويجب أن تُؤخذ النصوص على ظاهرها ما استطعنا إلا ما قام البرهان أو دليل نصي آخر على خروجه عن ظاهره، فكل تأويل لا بد له من دليل.

وإن كان إخراجه عن ظاهره مدعوما بدليل نصي آخر فإن هذا النص الآخر أيضا يخضع لقواعد الصدور والدلالة السابق الإشارة إليهما في المقال السابق، فإن كانتا يقينيتين فيفيد هذا الفهم يقينا، وإلا فيفيد ظنا. ومن أمثلة هذه الأدلة النصية بعض الروايات في تفسير بعض الآيات وأسباب نزولها والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك، وكذلك علوم الحديث والرجال التي تتداخل مع هذه العلوم.

كما يجب تجنب التفسيرات والتأويلات التي لا تقوم إلا على أهواءٍ أو ظنيات لا أساس عقلي أو نصي لها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفتح باب التأويل دون شروط وقواعد له مفاسد كثيرة على الاعتقادات والأعمال، ويؤدي للتفرق وكثرة الأقاويل التي لا أساس لها من الصحة. كما أن غلقه تماما مخالف للحكم العقلي والنصي معا، ولما أجمعت عليه الأمة.

كما أن التفسيرات ومحاولات الفهم للنصوص يجب ألا تأخذ في الاعتبار أمورا لا أهمية لها مثل الحفاظ على التراث لذاته، أو التجديد لذاته، فهذه وتلك أدوات ووسائل وليست غايات. بل الغاية يجب أن تكون الوصول لفهم سليم وصحيح وحقيقي للنص، فهذا هو المطلوب بالذات هنا.

وللوصول لذلك ببساطة يجب كما سبق ألا يخالف فهمنا للنص العقل البرهاني اليقيني، وألا يخالف النصوص يقينية الصدور والدلالة للدين المثبت صحته، وألا يخالف فهمنا للجزئيات الكليات الثابتة، وألا يخرج النص عن ظاهره إلا بدليل.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة