مقالات

المطلق والنسبي – هل يمكن أن يحيا الإنسان حياة متزنة دون الإستناد إلى ثوابت ؟

فتش عن المطلق

باختلاف الأزمنة والعصور، وباختلاف الأماكن والأوطان، اختلفت الثقافات الإنسانية والمجتمعات وحتى الأفراد في تقييم السلوكيات المختلفة والأفعال الأخلاقية.

ثقافة ما تبيح قتل شعوب معينة، وتستحل مواردهم، ثقافة ما تدعم السرقة من الأعداء، وتدعو هذا بالعمل الشجاع، بينما ثقافة أخرى تمقت السرقة، لأنها تعد تعديـاُ على الملكية الخاصة.

مجتمع يجعل الزواج فرضًا روتينيًا لابد من آدائه، حتى ولو لم يكن مناسبًا، ومجتمع آخر يرى أن السعي لتكوين أسرة، عبث لا طائل منه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

شخص يرى أن ما يقوم به من سلوكيات فى مجتمع شرقي لن تكون كالتي سيمارسها في مجتمع غربي، هو نفس الشخص، ولكن سلوكياته ربما تكون متناقضة.

وفي وسط كل هذه السلوكيات المتضاربة والدوافع المتناقضة، يبرز سؤال: أي فكرة تنتج السلوك الصحيح وترتقي بالإنسان؟

الحاجات الإنسانية الثابتة

الإنسان مخلوق له حاجات متعددة، منها ما هو متغير بتغير الزمان والمكان والظروف، كطبيعة السكن والملبس، فما أحتاج لارتدائه في الصيف يختلف عما أحتاج لارتدائه في الشتاء، كما يختلف مثلًا ما يحتاجه الطبيب لتأدية عمله عما يحتاجه المهندس، وما أحتاجه للسفر لمدينة أخرى يختلف عما أحتاجه للسفر لقارة أخرى وهكذا.

ولكن هناك حاجات ثابتة للإنسان، حاجات متعلقة بذات الإنسان وحقيقته، حاجات ليست ذات طبيعة مرحلية مؤقتة؛ بل هي حاجات تواجه الإنسان في بنائه الفردي والاجتماعي والحضاري باستمرار.

فالتطور المجتمعي والمدني في الوسائل والأدوات، إنما يفرض التغيير فقط في ما يمثل علاقة الإنسان بالطبيعة، فيما يتخذ الشكل المادي، أما على الجانب الآخر فالإنسانية منذ قديم الأزل، وحتى اليوم وكل يوم، تعيش عددًا من الحاجات الثابتة التي يواجهها إنسان عصر الكهف، وإنسان عصر الطائرة على حد سواء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هي حاجات خُلقت مع الإنسان، وظلت ثابتة في كيانه على الرغم من التطور المستمر في حياته.

وهذه الحاجات الثابتة تحتاج معالجة ثابتة حية في أهدافها وممارساتها؛ بل إن الحاجة الثابتة تقتضي معالجة ثابتة، بدونها لن يتغلب الإنسان على مشاكله، ولن ينجح في ممارساته الحضارية.

لابد من مبدأ مطلق حقيقي غير محدود يستوعب المسيرة الإنسانية ويهديها إلى سواء السبيل.

لابد من مبدأ مطلق ولابد من إيمان مطلق به.

المطلق والنسبي

إن من لا ينتمى إلى المطلق، بحيث يمكن أن يستند إليه في مسيرته الطويلة، ويستمد من إطلاقه وشموله العون والمدد والرؤية الواضحة لنفسه وللعالم، فكل تحرك يقوم به هو تحرك عشوائي مهما حقق من نتائج ملموسة مرضية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعلى الإنسان أن يهتدى للمطلق الحقيقي، وألا ينخدع بمطلق مصطنع، فينسج ولاءً وإيمانًا بقضية ما ويظنه وقوده ودافعه، فمع مرور الوقت يتجرد هذا المطلق المصطنع من ظروفه التي كان صحيحًا ضمنها، ويتجمد ويتحول لمطلق لا طاقة له بالاستجابة لمطالب الإنسان واحتياجاته، وعندما يحدث هذا، عندما يتحول النسبي لمطلق في اعتقادنا، يكون سببًا في تطويق حركتنا وتجميد قدرتنا على التطور.

أن نجعل رأي الناس والأغلبية هو الحاكم لسلوكنا وقراراتنا أمر خاطئ، فرأي الناس قد يصيب وقد يخطئ.

أن نجعل الماديات هي الحاكم لسلوكنا وقراراتنا ونسعى لأجلها أمر خاطئ، فالأمور المادية نحتاجها فقط بمقدار معين ولأمر معين ولتيسير حياتنا، وليس أن نجعل حياتنا لخدمة المادة.

نحتاج مسكناً مناسباً لتوفير الأمان والراحة، لا أن تكون غايتنا توفير مسكن باهظ نحتاج للملبس كغطاء وللحماية، لا أن تكون غايتنا الحصول على ملبس باهظ الثمن، فيخرج الأمر عن مساره السليم.

النسبي محدود والنسبي لا يمكن أن يكون مطلق، هذه حقيقة لا مفر منها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثبوتية المطلق

وسائل السفر قديمًا كانت الجمال أو الخيول، نقصد وجهة معينة ونستخدم الجمال للوصول، أما الآن نقصد نفس الوجهة ولكن أصبح هناك السيارة والطائرة وغيرهما. الوجهة المقصودة واحدة على مر السنين، ولكن لا يليق أن يقرر أحد السفر بالجمال الآن، فالظروف التي كان هذا الأمر صحيحاً ضمنها لم تعد موجودة، ولكن البلدة موجودة في نفس مكانها على مر السنينن وتتبدل الوسائل لنبلغها.

المطلق هو ما يمنحنا المعيار الموضوعي الثابت المنتج للسلوك السليم والفضائل، متجاوزًا كل الثقافات والمجتمعات، ومتجاوزًا حدود الزمان والمكان.

إن نزعات البشر المعنوية السامية هي وليدة الإيمان والاعتقاد والتعلق ببعض الحقائق في هذا العالم، فوعي الإنسان ومعرفته تجتاز ظواهر الأشياء وتنفذ إلى باطن الذات، وماهيتها وعلاقاتها وتبعاتها، وتتخطى حدود الزمان والمكان، تتخطى المعرفة الفردية والجزئية، وتكتشف القوانين الكلية والحقائق العامة التي تستوعب العالم وتستوعب روح الإنسان، السنن البديهية والفضائل الحاكمة للبشر.

لا يمكن اجتماع النقيضين بأي حال من الأحوال، ولا حدث يقع بدون سبب فلكل معلول علة، لا يحدث هذا في أي نوع من العلوم، هذه سنن حاكمة.

العفة يجب أن تحكم سلوكنا في أي بلد، وأي زمان.

الأسرة هي الأسرة في كل الأرض، العدالة واجب تطبيقها على كل الشعوب والأجناس، الظلم سئ ضد أي شعب أو شخص، هذه قيم راسخة.

هي سنن وقيم ترسم المسارات التكاملية للبشر فى كل زمان ومكان، تضمن للإنسانية التكامل، والخروج عنها هو الفوضى والتخبط.

وهناك الحقيقة المطلقة الجلية بأن هذا الكون لا بد له من خالق، أفاض علينا بالوجود، حقيقة مطلقة جلية للعقل.

أهمية الرؤية والهدف

ولذا لا يتمكن الإنسان من الحياة السليمة، ولا ينجز عملًا مفيدًا بدون أن تكون له فكرة وهدف وإيمان؛ فالإنسان الفاقد للفكرة والتمسك باعتقاد ما كما أشرنا، تحركه عشوائي عبثي؛ فهو إما موجود حائر ومتردد لا يعرف حقيقة واجبه في الحياة، ولا يتخذ موقفًا واضحًا من القضايا الأخلاقية والاجتماعية، ولا يسعى لهدف واضح، وإما أن يكون إنساناً غارقاً في الأنانية، بحيث لا يخرج من حيز مصالحه الشخصية، فمصلحته هي اعتقاده وغايته.

أما إذا كان الإنسان متصلًا بفكرة ومؤمناً بها، فإن واجبه واضح، هو إنسان موضوعي في قصده متجاوز للذات الفردية، يستطيع الربط بين الفعل ودوافعه والفكرة المنتجة له، لا الفعل ونتائجه وفقط. يزن قيمة ما فعل ليس بما حققه من نتائج ملموسة، ولكن بما مثّل من دوافع نظيفة، ورسّخ من مفاهيم عليا، يصبح الإنسان بعيد الهدف إلى حد، بحيث تكون قيمة فكرته وهدفه فوق كل ما دونه.

البحث عن الحقيقة

لا يمكن للإنسان أن يعطي ولا أن ينهل ويرتوي، إلا من خلال الارتباط والاستناد إلى المطلق والالتحام به في سير هادئ؛ لابد من يقين وإيمان مطلق؛ فليس عيبًا أن يصدح المرء بما يعتقد، وبما يراه حقًا جليًا، بل العيب هو ألا يفعل.

كما أنه لا يجب على المرء أن يعتقد في ما لا يراه يستحق هذا اليقين، وهذه الثقة ليست من عجب أو خيلاء، بل هي ثقة في شمولية وإطلاق ما يؤمن به، والذى هو مطلق في ذاته لا يحتاج ليقين بشري، أما الفرد ذاته فقد لا يضمن حتى استمراره في اتباع المطلق، ولا يأمن نيته في أي من الأمرين.

لا أحد منا يتهم دوافع من اختلف معه في الرأي، ولكن على كل منا التأكد أن ما يتوصل له من أفكار، مطلق ويقيني، إلا إذا أُثبت له بالدليل عكس ذلك.

كما أنه لا حرج في أن يقول أحدنا للآخر أن رأيه خطأ، ولا حرج أن نقول على الحق أنه حق، فالصحة والخطأ أمران يخضعان لشروط موضوعية يمكن إدراكها، كما أن غرض المناقشة أو البحث يُفترض أن يكون هو الوصول للحقيقة، وبالتالي الانتصار يكون للحقيقة فقط، وهو ما يكون انتصاراً لطرفي النقاش، أن توصل كلاهما لمعرفة الحقيقة، فأنا وأنت على حد سواء في مسار البحث عن الحقيقة.

اقرأ أيضاً:

لماذا سمح الله بالشر ؟

كيف نحيا حياة إنسانية حقيقية ؟

هل يمكن أن يعيش الإنسان دون أمل ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

دعاء محمود

طالبة بكلية الطب جامعة المنصورة

باحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة

مقالات ذات صلة