مقالات

غزة وامرأتان

في برنامجها على قناة “روسيا اليوم”، وقفت المذيعة “آبي مارتن” تشجب وتدين الاعتداء الإسرائيلي على غزة ، وتهاجم بانفعال وغضب موقف الصحافة الأمريكية والبيت الأبيض اتجاه العدوان، وترفض المساواة بين العدوان الغاشم على غزة وبين دفاع أهل غزة عن أنفسهم، في تصرف وجرأة وحمية نادرة هذه الأيام.

“آبي” هي مواطنة أمريكية، نشأت في كاليفورنيا، وتذيع برنامجها في قناة “روسيا اليوم” بالإنجليزية من واشنطن، وتهدف في برنامجها إلى التصدي للأفكار السائدة أو المكتوبة قبلًا والتي تهدف إلى إخبار الناس كيف يفكرون وبم يهتمون.

امرأة أخرى تمامًا في بقعة مختلفة من الأرض، قابلتها في زيارتي لقريتنا أول أمس، جلست المرأة المسنة، ذات الحظ القليل من التعليم؛ والتي لا تستمع إلا للقنوات التلفزيونية الرسمية، جلست بعد أن رأت آثار العدوان  على غزة تدعو الله أن يلعن إسرائيل وعدوانها وأن ينصر أهلنا في عزة.

رجال دين وساسة وكتاب مخضرمون في بلادنا المسلمة والعربية؛ لم نجد منهم أي مواقف مماثلة، برغم مواقف بعضهم السابقة في دعم الحروب في بعض دول المنطقة، ومواقف آخرين دعمت وأصلَت لمجازر في حق شعوبهم، بينما لم نسمع لهم اليوم صوتا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استنكار المنَكر لا يحتاج لشهادات دراسية رفيعة، ولا لمعارف دقيقة، ولا إلى انتماء إلى شعب أو عصبة معينة، بل حتى في كثير من الأحيان إلى دين معين. فهذه امرأة باغية من بني إسرائيل تسقي كلبا عطِشا في الصحراء، وتدخل بذلك الجنة. فكل ما يحتاج إليه الإنسان هو الاستماع لصوت فطرته، وإبعاده صوت بهيميته ومصلحته المادية في الموقف المتعين!

ربما تكون أكبر حجة لله على الإنسان هي فطرته وعقله، فهما رسول قبل الرسل، يوضحان له الحسن والقبيح، ويمهدان قبوله للرسالة الحقة من الله التي تعلمه ما لا يستطيع أن يعلم وحده من أمور وتفصيلات أخرى.

وأما عقلًا؛ فما من تصرف يتصرفه الإنسان إلا وفيه ترجيح، وهذا هو معنى الاختيار، أن يرجح أحد الأمور على غيرها، فيراها حسنة وغيرها ليس بحسن.وهناك مُرجِّحَات متعددة، تتنوع بتنوع القوى المحركة للإنسان، فبين من تحركه شهوته فتكون ترجيحاته وتفضيلاته من اللذات والمصالح المادية. وبين من يحركه غضبه الجسدي الحيواني؛ فيتجه لاختيارات الانتقام والأذية لغيره.

وهناك مرجحات أخرى كقوى الخيال والوهم. فقوى الخيال تصل الإنسان بما انقطعت عنه حواسه، فيستدعي له خياله صورًا لملذات الخمر من سابق ذاكرته، وينصب له الوهم صروحًا من الملذات المنتظرة إن واقع هذا الخمر، فهما امتدادان لعالم الحواس والجسد، يقومان بمقامهما عندما ينقطع الاتصال الحسي بالشيء.

أما الترجيح الأخير فهو الترجيح العقلي، وهو فطرة الروح الإنسانية المجردة عن المادة والمتصلة بها اتصال تصرف، وهي فطرة الله التي فطر عليها نفوس البشر. وتتميز القوى العاقلة عند الإنسان بأنها صاحبة العلم أي انكشاف الواقع لها بشكل صحيح غير موهوم، ولما تعرف الواقع على ما هو عليه تأتي ترجيحاتها أكثر ارتباطًا بالواقع الحقيقي والمصلحة الحقيقية والخير الحقيقي، فهي تعرف أن مواقعة الخمر عواقبها وخيمة وإن استلذته الحواس وزينها الوهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وحسب درجة اتباع المرء لما حسنه العقل والفطرة؛ تقع درجة انسانيته، فبعضنا ينتصر لعقله أحيانًا وأخرى لجسده، وقلة قليلة نادرة هم من ينتصرون لعقلهم دومًا في كل تصرفاتهم وليس في مواقف محدودة فقط.

يقول عليه الصلاة والسلام: “الحلال بيّن والحرام بين”، وعن وابصة بن معبد رضى الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “جئت تسأل عن البر والإثم؟” قلت: نعم؛ قال: “استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.”

“استفت قلبك … وإن أفتاك الناس وأفتوك”؛ تأكيد على معرفة القلب والنفس الإنسانية بالحسن والقبيح، وبالخير والشر، ومرجعيتها في ذلك. لذلك سمّي المعروف “معروفا” والمنكر “منكرا”.

إن أشقى الناس هم أقوام آتاهم الله فطرة كتلك؛ ثم اختصهم بدين الحق المتماشي مع هذه الفطرة، فأنكروا الفطرة وشوهوا الدين، ونكصوا على أعقابهم يقولون ويفعلون أمورا ما أنزل الله بها من سلطان، وكذبوا على الله فنسبوا له الفواحش، لا ينكرون المنكر ولا تتحرك قلوبهم وألسنتهم رفضًا له. وإذا أمروا بغير ذلك استنكفوا وأنكروا على غيرهم.

لقد انتصرت المرأتان في هذا الموقف للإنسانية، وانتصرتا لفطرة الله التي فطر الناس عليها، فانتصرتا للحق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة