إصداراتمقالات

عن المعنى وأهل المعنى

تجلس العجوز في المشفى ترتعد خوفًا من العملية الخطرة التي على وشك أن تجريها، يقترب منها زوجها؛ لمسات حانية على كفّيها كانت كفيلة بتهدئتها تمامًا، وبعث الدفء في روحها.

وفي المطار يهبط الابن الغض على يد أبيه ليقبلها، يرفع عيناه ليجد عيني أبيه غارقتين في الدموع.

لمسات المحبين ونظراتهم، حركات المصلين وركعاتهم، هدية بسيطة، قبلة سريعة، حتى الكلمات؛ لماذا تمتلك هذه الأمور تأثيرًا قويًا وعجيبًا علينا؟

هل اللمسة التي هدّأت من روع العجوز هي مجرد تلاقي مادي بين جسمين؟ بين مادتين وجمادين؟ حتى وإن كان الجسمان معقدين؟ وينشأ عن اتصالهما حركات مادية أخرى للهرمونات والنواقل العصبية؟ هل الكلمات هي مجرد أصوات؟ وحركات للشفاه؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

صحيح لهذه الأمور أثر مادي، لكن هل أثرها بالكامل يرجع للجانب المادي؟ هل أثر الكلمات علينا يقتصر على إحداث اهتزازات بأذننا، وحركة إلكترونات في أعصابنا، ونواقل كيميائية في مخنّا؟ أم لها أثر أكبر من ذلك؟

وكيف تمتلك الكلمة في موقف ما قوة جبارة، وبعد أن ينقضي الموقف تصبح نفس الكلمة بلا أثر، بل ربما بأثر مضاد؟ وكيف تمتلك نفس الكلمة معانٍ متعددة في مواقف متعددة؟ بينما تمتلك كلمات مختلفة في مواقف مختلفة معنىً واحدَا؟ ألا يدل ذلك عن وجود شيء وراء اللفظ هو الذي يعطيه القيمة؟

لمّا كانت بعض إدراكاتنا مجردة عن المادة بشكلٍ ما، سواء تجريد غير تام مثل إدراك معنى حب أبيك، أو تجريد تام مثل إدراك معنى العدل؛ ثبت بذلك امتلاكنا لقوى مدركة غير مادية، ووجود عالم معنوي غير مادي. بل إن العقل غير المادي هو المميز لحقيقتنا وليس جسدنا، وإدراكاته للمعاني المختلفة هي المتحكم الأساسي فينا.

فنحن ندرك معانٍ غير مادية كمعنى الأمومة والحب والعدل والحرية، ومعنى الأمان والاحتياج والامتنان. كما ندرك أن هذه الحركة البسيطة تعني الاهتمام، وهذا السجود يعني الخضوع والفقر للخالق، وهذه القُبلة تعني الحب والاشتياق.

فالفارق مثلًا بين الدعارة والزواج هو المعنى! وبين القتل تنفيذًا لحكم القصاص العادل؛ والقتل ظلمًا واعتداءً هو المعنى!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد يقول قائل إن الأثر يرجع للعواطف، وهذا صحيح بوجهٍ ما، لكن العواطف والمشاعر ترجع لإدراكاتنا أيضًا، فأنت عندما تدرك معنى الكرم ومعنى الجمال في شخص ما تتحرك مشاعرك لتتعلق به، وعندما يبتسم لك هذا الشخص وتدرك ما تعنيه ابتسامته من اهتمام؛ عندها تتحرك مشاعر البهجة والسعادة.

ربّما هنا تظهر خطورة الفلسفات التي تحاول نزع المعنى عن العالم، نزع المعاني المجردة الغيبية الوجودية كالخالق والمصير، ونزع القيم والمبادئ كالعدل والعفة والفضيلة، ونزع الغايات المعنوية عن السلوك الإنساني؛ فيصبح سلوكًا عبثيًا بلا هدف، أو حيوانيًا في أحسن الأحوال!

إنها فلسفات تساوي بين الإباحية والزواج وتراهم نفس الشيء، فهما على المستوى المادي نفس الشيء! وتساوي بين الاعتداء على الآخر والدفاع عن النفس وطلب العدل؛ أي بين المعتدي والضحية! فتطالب الضحية بضبط النفس والكف عن العنف!

هذه الفلسفات راجعة في الأساس لمناهج معرفية حسية، أي قصرت المعرفة الإنسانية على الحس فقط، فلم ترَ بالتبعية إلا المادة، وعجزت عن تجاوز الحس الظاهر والعالم المادي.

صحيح يستحيل أن تنزع هذه الفلسفات المعنى بشكل تام، لكنّها نزعت الكثير منه، وأخرجته من منظومة المعرفة والسلوك والغايات، فهبطت بالإنسانية من سماء القيم والمبادئ إلى وحل الحيوانية المتسافلة، ومن الجنة إلى غابة البهائم، وساوت بين الوجود الإنساني والجمادات، فلا يوجد-عندها-فارق كبير بين الإنسان وبين تلك السلع الملقاة على الأرفف!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة