إصداراتمقالات

عن الكفر بالثقافة والمعرفة

“وما الذي فعله علماء الشرع بعلمهم؟ وماذا أفاد المثقفون بثقافتهم؟ وما فائدة هذه الثقافة أو هذه الكتب إن لم تنفع أصحابها ولا مجتمعهم؟” كانت هذه الكلمات أو شبيهها هي ما نطق به أثناء نقاشنا عن حال البلاد وما وصلت إليه.

ربما كانت أحد أخطر الأمور في الأحداث العاصفة التي مرت بها منطقتنا أخيرا؛ هي الفشل الذريع لكثير من نخبنا المثقفة، لقد انهارت الكثير من الرموز التي ادعت ما لم تلتزم به، وفعلت خلاف ما قالت، وفشلت في الامتحان الحقيقي، ولم تنجح في حل مشاكل الأمة، فكفر بهم المجتمع.

لكن الأكثر خطورة من كفر المجتمع بمثقفيه هو كفره بالثقافة بل وبالمعرفة والعلم، حيث ضربت الطبقات الوسطى من المثقفين –إن صح التعبير- موجات من الشك والسفسطة واللاأدرية، فاتجهوا إلى أصناف من المعرفة ربما لا قيمة لها البتة.

بينما الأقل ثقافة فقدْ كفر بجدوى المعرفة نفسها وربما هجرها، وزاد إيمانه بعدم قيمتها. وربما وجد المواطن البسيط في موقفه من الصحة والنبل؛ أكثر مما وجد في مواقف المتلونين وغير الثابتين على مبادئهم من مدّعي المعرفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد تكون هذه المشكلة قديمة بعض الشيء وإن ظهرت مؤخرا بشكل واضح، فكثير من مثقفينا لفترات طويلة كانوا معزولين عن المشاكل الحقيقية للشعب، ولم يقدموا له ما ينفعه في حياته، بل لم يساعدوه على تشخيص واقعه بشكل جيد، ولم يخبروه بما يجب أن يفعل ليغير واقعه، بل ربما كانوا عونا عليه لا له.

فالنخب التي فشلت في تشخيص العدو الأول لنا، وارتموا في أحضانه ودعوا إلى التطبيع معه، هذه النخب كفر بها من تربى على قصص أقاربه الذين استشهدوا في الحرب. والنخب التي رأت أن الحل يكمن في الإجراءات الاقتصادية التي تزيد المواطن فقرا ولا تساعده قط في تحسين حاله؛ ربما لم يقتنع بها المواطن البسيط ولا بجدوى وجودها أصلا!

والنخب التي قدمت له وجبات ثقافية مسفة ومبتذلة تساعد على إلهائه وإثارة غرائزه الشهوية، ربما استمع لهم من باب التسلية، لكنه لم يتعامل معهم قط بالجدية الكافية أو باعتبارهم قادرين على فهم مشاكله أو حلها.

والنخب الدينية التي كانت تحدثه عن أمور أبعد ما تكون عن واقعه المعاش وتدّعي أن هذا هو الدين كل الدين؛ ربما لم يكن قلبه مطمئنا لها قط، ولا لما تخبره به عن ظلم الإله.

وسبب هذه المشكلة هو نوع المعرفة التي يمتلكها هؤلاء النخب، بل ربما أعمق من ذلك؛ فربما السبب الحقيقي للمشكلة هو فهم هؤلاء لمعنى المعرفة وغايتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حيث تنتشر في مجتمعاتنا بين العامة والخاصة على السواء صور خاطئة بشدة عن المعرفة وأهميتها، فهذا شخص يدعي الأعلمية والألمعية لامتلاكه مكتبة عملاقة، وهذا آخر يفخر بالعدد المهول من الكتب التي قرأها والمعلومات الكثيرة التي يعرفها.

وهذا يفخر بالدرجة العلمية أو الشهادة الأجنبية، وآخر يفخر بحفظه لمئات الأحاديث النبوية الشريفة. وكثر يفخرون بقدرتهم على نطق الألفاظ والاصطلاحات المعقدة؛ سواء المستخرجة من كتب التراث كما دأب على ذلك ثلة، أو المستوردة من وراء البحار كما انبهر بذلك قوم.

والكل يدّعي أنه أوتي العلم كله، واستفاد منه وحقق ثمرته. وكل السابق قد يكون مهما ولا ننفي أهميته؛ لكنه ليس بكاف وحده، فمفهوم المعرفة وغايتها أعمق من ذلك.

إن المعرفة التي نقصدها هنا هي المرادفة للعلم الذي هو مطلق الانكشاف، وأهمها على الإطلاق هي الجازمة والمطابقة للواقع بالدليل، والتي تمكن الإنسان من تصور وفهم ما حوله تصورا صحيحا، ثم الوصول لأحكام صحيحة عن هذا الواقع والاستدلال عليها استدلالا سليما.

وهذه المعرفة لا تكفي فيها كم المعلومات، بل يدخل فيها جانبان أهم بكثير؛ أولهما الكيف؛ أي قيمة وصحة ويقينية هذه المعلومات، وثانيهما قدرتنا على الاستفادة من هذه المعلومات في تكوين الأحكام وبناء التصورات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهدف هذه المعرفة الأساسي هو تشخيص الواقع حولنا بشكل صحيح، ثم معرفة أفضل الطرق للتعامل مع هذا الواقع.

فالمعرفة الإنسانية كما تحدث عنها الحكماء منذ القدم تهدف إلى أمرين: معرفة الحق لاعتقاده، ثم معرفة الخير لفعله. بكلمات أخرى معرفة ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.هذه المعرفة تؤدي فيها العلوم العقلية دور الحجر الأساس؛ هذه العلوم التي تم تهميشها عمدا أو جهلا في خريطتنا الثقافية.

وحتى هذه المعرفة الصحيحة لا تكفي وحدها، فيجب أن يتبعها اختيار وفعل صحيح مبني عليها، فالإنسان الذي عرف الحق ثم لم يعتقده، أو عرف الخير ثم لم يعمل به؛ لربما كان أسوأ مِمن لم يعلم، ولا قيمة لمعرفته هنا، بل ربما كانت سببا في شقائه.

لقد ابتلينا ببعض المثقفين الذين لا يعرفون معنى المعرفة، ولا قيمتها، ولا يعرفون غايتها ولا فائدتها، ولا كيفية تحصيلها. لا يعرفون واقعهم ولا ما يجب فعله في هذا الواقع! ونسأل الله لهم ولنا وللأمة السلامة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة