إصداراتمقالات

عن الرحمة الإلهية وأشياء أخرى

عن الرحمة الإلهية وأشياء أخرى

في السنة الثالثة لدراستي في كلية الطب؛ توجهت للمرة الأولى إلى مستشفى الطوارئ الجامعي لمشاهدة شباب الأطباء وهم يتعاملون مع الحالات الطارئة؛ في محاولة بائسة لاستفادة ما. هناك في غرفة الجراحات الصغيرة؛ يتكدس عدد هائل من الطلاب من مراحل مختلفة مع ضوضاء عالية، فجأة يقطع الضوضاء صوت صراخ حاد لطفل صغير تحمله أمه وتدخل به باكية.

سرعان ما يعاد ترتيب الغرفة لتتحلق الحلقات حول المريض ويتراجع الأقل خبرة بسبب صعوبة الحالة، جرح قطعي كبير في الوجه لسبب ما، يتقدم الطبيب المسئول ويبدأ محاولة تنظيف الجرح ثم وضع مخدر موضعي؛ الطفل يتحرك بهياج شديد، والأم عاجزة عن إبقائه ثابتًا، يبدأ الطبيب محاولة الخياطة لينفجر الطفل في صراخ شديد وتبكي الأم وتنتحب وتجذب ابنها بعيدا!

بعد محاولات شد وجذب مختلفة ثبت فيها عدم قدرة الأم على إبقاء الطفل ثابتًا؛ وأن حالتها ربما أصبحت أصعب من حالة الطفل؛ يستعين الطبيب بثلاث ممرضات، اثنتان لتثبيت الطفل ومنع حركته تماما، والثالثة لإبعاد الأم التي اتضح أنها عائق حقيقي لاستكمال العمل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بثبات ولعدة دقائق يغرز الطبيب إبرة الجراحة بكل ثقة وبرود في جلد الطفل الذي لا يتوقف عن الصراخ بينما أصبح عاجزا عن الحركة، ويتعالى بكاء الأم وكأن الطبيب يقتل ابنها لا ينقذه!

تصف كتب علم وظائف الأعضاء “الألم” بأنه: آلية وقائية تعمل على حماية الجسم، فعندما يحدث تلف ما بالأنسجة أو يكون التلف قريبا؛ تنطلق النواقل الكيميائية لتثير الأعصاب محدثة شعورا غير سار يدفع الإنسان للابتعاد عن السبب الذي يضر بالأنسجة؛ فيمنع أو يحد من التلف الناتج، ويدفع الإنسان في اتجاه مصلحة جسده وما فيه بقاؤه.

إن الألم في هذه الحالة هو عين الكمال، هو السبب في استمرار الحياة والحفاظ على الجسم، ، هو الرحمة الحقيقية … والسبب في سعي الإنسان إلى إبعاد الشر المادي عنه!

“إنت عايز إيه تاني يا رب علشان تشيل الظلم ده بقى؟!”

تقع عيني على هذا التساؤل الذي تقدمه إحدى “الرموز المجتمعية” تعليقا على آخر حوادث الاعتقالات وسقوط الشهداء؛ بسبب الاشتعال الأخير في الأحداث. وقتها فقط تمنيت لو كانت معي ذلك اليوم؛ لترى كيف أن الرحمة أحيانا تكون في صورة الألم! في صورة غرز الإبر الجراحية في الوجه! تمنيت لو أخبرها عن فائدة الألم في الحفاظ على الجسم وعلى حياة الأنسجة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن لماذا أصلا هذا الظلم ؟!

إن هذا هو معنى الاختيار؛ هذه الخصيصة المميزة التي يمتاز بها الإنسان ويكون بها إنسانا! أن يختار بين الصواب والخطأ؛ بين أن يختار حاكما ظالما ويتحمل العواقب، أو يسعى للعدل وينعم بتبعاته الطبيعية، أو ربما يختار ألا يختار فيترك المجال لغيره من الظالمين ثم يشتكي منهم! فهذا ما تقتضيه طبيعة الاختيار، ولولاها لما أصبح للاختيار معنى، ولعاتبنا الإله؛ لكن بسبب جبريته هذه المرة!

ربما كانت الآلام الشديدة التي يشعر بها المجتمع جراء الظلم هي عين الرحمة ، شعوره بأن هناك مصدر للألم قد يؤدي لتلف المجتمع إذا لم يتخلص منه، هذه الآلام هي التي تدفعنا دفعا لكره الظلم والظالمين، وتدفعنا دفعا للبحث عن العدل والسعي له؛ فيتحقق كمالنا الفردي وكمال المجتمع، ويبقى “النسيج” حيا.

لقد كانت الرسالة واضحة منذ البداية، والتعرض لهذه الآلام هو اختيارنا المحض، فقد قالت لنا الرسالة منذ القدم “إِنّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ”؛فتركنا العدل واخترنا الظلم، تركنا الصحة واخترنا تلف الأنسجة؛ ثم جلسنا نشتكي وننسب إلى الله ما هو منه براء! لقد قالت لنا إنّ هذا الطريق هو طريق الألم؛ لكننا اخترنا مرة أخرى أن نهبط من الجنة!

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة