إصداراتمقالات

عالم ما بعد الحداثة

يعتبر مفهوم ما بعد الحداثة في رأي الفيلسوف المصري عبد الوهاب المسيري مصطلحا غامضا بعض الشيء، فهو مصطلح ليس له دلالة في ذاته إلا النفي والعداء، فالمسيري يضرب لنا مثلا فيقول إننا إن تكلمنا عن ما بعد الميتافيزيقا فإننا بالأحرى نتكلم عن ضد الميتافيزيقا، وإن تحدثنا عن ما بعد الأخلاق فإننا في الحقيقة نرمز إلى ما هو ضد الأخلاق كما فعل نيتشه الفيلسوف الألماني حين كتب ما فوق الخير والشر فكان يريد هدم الأخلاق هدما تاما وإعلاء سلطة إرادة القوة المطلقة، ففي النهاية ما بعد الحداثة ربما تعني في نظر البعض ما هو ضد الحداثة.

ولتعميق المفاهيم لابد من الوقوف على معنى الحداثة أولا وأسبابها فالحداثة هي موقف عقلاني اتخذه الفلاسفة في أوروبا في عصر النهضة بهدف الإعلاء من شأن الإنسان واعتباره مركزا لهذا الكون وعن طريق هذا الاعتبار كانت المحاولات العلمية للوقوف على أسباب الظواهر الطبيعية والتحكم فيها لذلك كانت النهضة الصناعية في أوروبا طفرة في تاريخ العلم الإنساني فعلا، فقد حاول الإنسان الأوروبي أن يسيطر ويتحكم في هذه الأرض عن طريق العلم، وهكذا انتقلت الفلسفة من محاولة أو اجتهاد لتفسير وإدراك الوجود إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة التقنية أو محاولة السيطرة على الوجود إن صح التعبير وهذا قول بسيط جدا لا يفي الحداثة حقها وإنما الحداثة مفهوم فلسفي يحتاج إلى محاضرات ومحاضرات ولكن للأسف المقام هنا لا يسمح أن نتوسع أكثر من ذلك.

نعود إلى ما بعد الحداثة وهي التطور الثالث في تاريخ الفلسفة فمن الإدراك إلى التقنية، الآن نصل إلى مرحلة الالتذاذ فبعد سيطرة الإنسان على هذا  العالم عن طريق العلم يحين الآن الوقت للحصول على النشوة والفرح بالإنجاز، وبالتالي يجب على الإنسان أن يسعى نحو أكبر قدر من الرفاهية المطلقة وأن يسعى نحو الكمالات المادية وأن يلتذ بها أيما التذاذ فهذا هو واجب الإنسان العصري اليوم في نظر ما بعد الحداثة، ولكي نبين ما نقصده بطريقة أكثر موضوعية يجب علينا أن نعي الفرق بين مفهومين في منذ الأهمية ونحن نتحدث حول ما بعد الحداثة، المفهوم الأول هو الدائرة الكبرى أما الثاني هو الدائرة الصغرى، فما معنى الدائرة الصغرى والكبرى؟! وما علاقة هذه المفاهيم العجيبة بفلسفة ما بعد الحداثة؟!

لو حدثتك مثلا عن المدينة الفاضلة والسعي للكمال الأخلاقي وإن حدثتك عن استلهام أعاظم رجال هذا العالم الذين ضحوا بحياتهم في سبيل أفكارهم الحرة كجيفارا على سبيل المثال، وإن تناقشت معك حول عالم فاضل عادل وعن نجدة المستضعفين في الأرض وإفناء أرواحنا في سبيل الإنسانية كل هذا يدعى بالدائرة الكبرى التي يرى فيها الإنسان نفسه جزءا من هذه الإنسانية بل و يرى أن لهذه الإنسانية حق عليه فيفنى نفسه في سبيلها هذا مثال بسيط، ولكن على جانب أخر لو حدثتك عن إنسان يعيش لنفسه يلتذ ويسعى لهذه اللذة بكل ما يستطيع من قوة أن يعيش نمطيا إن صح التعبير وأن يهتم الإنسان بأموره الخاصة وفقط فهذا ما يسمى بالدائرة الصغرى، أي أن الإنسان يصبح كالمتقوقع داخل ذاته يعيش للمنفعة الخاصة وفقط وهذا النوع الثاني من البشر ما تدعو إليه ما بعد الحداثة، فلم يعد هناك -من وجهة نظر ما بعد الحداثة- ما يستحق أن نتأمل في الدائرة الكبرى بشأنه فقد تملكنا هذا العالم ووصلنا إلى أقصى مدى من القدرة على فهم هذا العالم- مع أن العالم ما زال يدهشنا كل يوم بالجديد- فقد وصلنا إلى نهاية التاريخ كما يقول فوكوياما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن عالمنا اليوم يسير بهذا النمط من التفكير نظام عالمي جديد هو نظام العولمة المعروف كل الهدف منه هو تعظيم الربح والفائدة المادية، عالم يتحكم فيه واحد في المئة من سكانه في ٩٨ % من الثروة الإنسانية، عالم لا يعترف إلا بسلطة المال والمادة، بل هو عالم أصبحت فيه المادة طاغية حتى على عقول الناس، فالطموح الأوروبي في بدايات عصر النهضة بالسيطرة على المادة تحول تماما، وانقلب السحر على الساحر حتى تحكمت المادة في الإنسان الذي حاول الإنسان الغربي أن يجعله مركزا لهذا الكون.

لو أردنا أن نلخص هذه الفلسفة أي ما بعد الحداثة فنقول باختصار أنها إعلان، إعلان عن فشل الإنسان وفشل الفلسفة وفشل الأخلاق وفشل الثوابت فهي الفلسفة المتعارف عليها باسم فلسفة العدم أو فلسفة اللاشيء!!

فالإنسان في عالم ما بعد الحداثة يعيش منمطا إلى حد كبير يأكل ويشرب وينام ويذهب إلى العمل ثم يجمع المال ويدخره ويستمتع بما ادخره في الأخير ويعاود الكرة من جديد، لقد ذهب العالم في عصر ما بعد الحداثة إلى التأصيل الكامل لمادية الإنسان وسيولة القيم أسقط هذه المفاهيم على سياسة هذا العالم لتجد العالم يتصارع حول المنفعة المادية دون أي احترام للقيم، في النهاية يمكن أن نجمل القول أن ما بعد الحداثة تقول لنا ضمنيا أننا لسنا بشرا بالمعنى المتعارف عليه، بل نحن أقرب إلى الآلات بالنسبة إلى هذا الطرح الفلسفي أو إن شئت كل اللا فلسفي بالأحرى.

من يظن أن التاريخ قد يقف عند هذا المطاف فهو مخطئ فتصريحات فوكوياما عن نهاية التاريخ لا يمكن اعتبارها إلا إهانة للعقل البشري، ففي الأخير الإنسان ما زال قادرا على الإبداع وقادرا على التأمل وقادرا على إخراج منظومات فكرية تطرح لنا رؤية فلسفية وأخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية جديدة، لعل هذا يتطلب عديد السنوات فما بعد الحداثة والعالم اليوم لم يكن وليد اللحظة أيضا!! ولكننا يجب أن نجتهد في نهاية المطاف في محاولة إيجاد هذا الطرح الفلسفي الجديد الذي قد ينقذ العالم من هذه المادية القاتلة، حتى ولو لم نعش كفاية لرؤية هذا الطرح يتحول إلى حقيقة في الأخير، فرحلتنا في هذه الحياه قصيرة وليس يجب علينا إلا أن نتبع ما تمليه علينا مبادؤنا وعقولنا وإلا كنا من الهالكين في الأخير.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحمد رمضان

طالب بكلية الهندسة – جامعة المنصورة
كاتب حر
باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة

مقالات ذات صلة