إصداراتمقالات

ظلم الهوى

يسعى المخ البشري لتنميط الأشياء دائمًا بربط المتشابهات؛ لتسهيل حفظ المعلومات وتخزينها. ربما أدى ذلك لبعض الأخطاء نتيجة التسرع وعدم ملاحظة المختلف. ولكن المبالغة في هذا السلوك أدى إلى عائق أكبر في الرؤية والتحليل ُيُغَيِّم حقيقة الشئ تمامًا؛ أي لا يُغفِل بعض تفاصيله فقط.

قال جورج برنارد: “لا تجادل عاشقًا ولا متعصبًا؛ فالأول يحمل قلبًا أعمى، والثاني يحمل عقلًا مغلقًا”
أتفق مع هذه المقولة في عدم المجادلة معهما، ولكن أختلف معها قليلاً في التفسير؛ فكلاهما ذوا عقل مغلق بسبب قلب أعمى ؛ أي أن في كليهما تسيطر أهواء الإنسان على عقله، وبالتالي تُغيم من رؤيته للحقيقة بشكل واضح.

ما علاقة إغلاق العقل بالمبالغة في التنميط ؟! العلاقة متمثلة فيما يحدث نتيجة تأثر الإنسان المفرط، والمبالغ فيه بما حوله من قصص واقعية، وانطباعات أشخاص موجودة في عالمه الافتراضي أو الحقيقي، وربما بعميق تأثير ما يشاهد من أفلام أو مسلسلات أو حتى ما يقرأ من روايات. وبدون تفكير منه يربط بين حياته وما يشابهها مما يشاهد أو يقرأ، في النقيضين وكل حسب حالته. فلنفترض مثلًا وجود ثنائي حديثي الارتباط؛ ربما يكون بينهم تناغم جيد ووضعهم لا بأس به، ولكن إن كان أحدهما أو كلاهما واقعا في حفرة المبالغة في التنميط وعمق تأثير المشاهدات؛ سيضع نفسه في قصة تتسع هوة اختلافها عن الواقع بالتدريج؛ قصة أكثر رومانسيةً وتشويقًا عن الواقع ،وقد يرى البعض أنه لا بأس بذلك إن كان سيحقق لذة الفرحة، ولكن الوضع لا يبقى ورديًا لفترة طويلة؛ فسرعان ما تبدأ وحوش الواقع في الهجوم على طيور الوهم؛ لجرها إلى الواقع مع جعل الارتطام أكثر شدةً وألمًا، لماذا؟! لأن الخيالات المثالية ينتج عنها توقعات مثالية وبالتالي خيبات أيضًا مثالية، لاستحالة مطابقة قصة واقعية للنسخة المتخيلة منها. هذه الاستحالة يدركها العقل المجرد ببساطة، ولكن يصعب على العقل المشوب بسيطرة الهوى أن يرى تلك الحقائق.

ولأن هذه المبالغة تتجه بتوجه حالة صاحبها، فعند انتهاء قصة كتلك سيفيق العقل المغيب ليرى قصته بمنظور آخر؛ كأنه حديث العهد بها ولم يعشها من قبل. فبدلاً من أن يراها حتى على حالتها الواقعية؛ سيراها بشكل أسوء بكثير يعادل تلك القصة التي سمعها أو شاهدها مؤخرًا، فيسقط في هوة الحزن لبعد أعمق مما ينبغى لأنه حلّق في بداية الأمر أكثر مما ينبغي. وكما قال الإمام علي: ” أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما ، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما. “

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما أردت ضرب هذا المثال؛ لأنه سيكون الأقرب للعقول، ولكن الهدف في حقيقة الأمر هو مناقشة هذا السلوك في العموم، وما يسببه من مشاكل على مستوى الفرد والمجتمع، فكما يسلُك الإنسان هذا السلوك في حياته العاطفية يسلُكه أيضًا في كافة شئون حياته؛ ربما يختار مجال عمل لا يليق به ولا يحسنه لتأثره بعلَّامة في هذا المجال وتشبيه نفسه المستقبلية به، غافلًا حقيقة أن اختياره لمجاله يجب أن يقوم في الأساس على قدراته وشغفه التي قد تختلف عن قدرات وشغف هذا العلَّامة، وينتج عن هذا سلسة من الألم طوال طريق التعليم فالوظيفة. لا تنتهي إلا بتغيير المجال، أو بمسكنات للألم بمشاغل الحياة الأخرى؛ التي قد لا تزيد الوضع إلا سوءًا. ربما يرى في خليله الصديق الوفي قبل أن يتحقق له يقين ذلك لمجرد تحقيق القصة التي يتمناها مما يؤدي أيضًا إلى خيبة بطلان هذه الصورة عند أول موقف يحتاج فيه إلى سند هذا الصديق ولا يجده! ربما حتى يحدث هذا مع الآباء والأمهات الذين كانوا يرون في الأبوة طفل يضحك وركوض في الحدائق. لا بأس في اصطدامهم بواقع أن هناك مشقة التربية والتعليم؛ المشكلة تحدث حينما لا يكونوا على قدر هذه المشقة؛ فيكتفوا بتوفير المادة لأبنائهم، وصنع تعلقهم بالماديات والاستهلاك؛ فيُنتج جيل مستهلك عقله، منوط بحب المادة، ولم يتربَّ بما يكفي على حب العلم لذاته؛ لا لمنفعته المادية أو التحلي بالأخلاق الحميدة التي ترتقي بالإنسان فالمجتمع.

هدف هذا الحديث هو فقط لفت الانتباه إلى أهمية العقل المتجرد؛ الذي لا يشوبه الهوى. لا أطالب الإنسان بالطبع بأن يتوقف عن حب الناس حتى يتيقن من حسنهم، أو ألا يقوم بأي خطوة في مستقبله إلا بعد حسابات طويلة؛ فقط أناشد بالتريث في الحكم على الأشياء واتخاذ القرارات، وتحديد دور الهوى في هذا القرار وإيفاءه حقه، لا ينقص ولا يزِد منه شيئًا
وتجريد العقل بالتدريج من مشوباته التي من أمثلتها هنا المبالغة؛ حتى يصبح تفكيره السليم طريقًا ممهدًا لتحقيق سعادته واكتماله.

آية سعيد

طالبة بكلية الطب _ جامعة المنصورة

عضوة ومحاضرة في فريق مشروعنا بالعقل نبدأ المنصورة

مقالات ذات صلة