طقوس العلماء وغرائب العبقرية
يرى العباقرة العالم بطرقٍ مختلفة عن الآخرين، ولذا كثيرًا ما يواجهون صعوبة في التفاعل مع المُحيطين بهم، بل ويُتهمون بالجنون، وهو ما عبر عنه “أرسطو” بقوله: “لا توجد عبقرية عظيمة دون لمسة من الجنون”. وسواء قبلنا ذلك أو لم نقبله، فإن طريق العبقرية والإبداع –كما تُظهر السير الذاتية لكبار العلماء والمخترعين– طريق طويل ومتعرج، مرصوف بطقوسٍ وعادات غريبة يصعب أن نجد لها تفسيرًا. النماذج التالية مجرد لمحات سريعة لأغرب عادات العلماء الذين ساهموا في بناء حضارتنا الإنسانية وغيروا مجرى التاريخ، وهي تؤكد أن العبقرية كينونة متحررة من الزمن، خروجٌ عن الذات، وانغماس في عالمٍ أسمى وأكثر رحابة!
وفقًا للمؤرخ الأمريكي مارك جيفري سيفر (Marc Jeffrey Seifer)، كاتب السيرة الذاتية للفيزيائي والمخترع الصربي – الأمريكي نيقولا تسلا (Nikola Tesla 1856 – 1943)، كان تسلا ينام ساعتين فقط في الليلة، وإن كان يغفو من وقتٍ إلى آخر لإعادة شحن طاقته، ويمشي ما بين ثمانية وعشرة أميال في اليوم، كما كان مُولعًا بألعاب الورق والبلياردو والشطرنج، وكان يقضي أحيانًا أكثر من ثمانية وأربعين ساعة على طاولة الألعاب، دون أن يُؤثر ذلك على عمله الذي كان يمتد من التاسعة صباحًا حتى السادسة مساءً. الأغرب من ذلك أنه كان يُطقطق أصابع قدميه مائة مرة كل ليلة، كل قدم على حدة، مُعتقدًا أن ذلك يُساعده على تحفيز خلايا دماغه! وفي سنواته الأخيرة أصبح تسلا نباتيًا، يعيش فقط على الخبز والعسل وعصائر الخضروات.
كذلك كان عالم الرياضيات اليهودي المجري بول إردوس (Paul Erdős 1913 – 1996) يتعاطى المنشطات بانتظام (الأمفيتامين Amphetamine والميثيلفينيديت Methylphenidate) بدءًا من الثامنة والخمسين من عُمره، بعد أن وصفها له الطبيب لتخفيف الاكتئاب المرتبط بوفاة والدته، لكنه استمر في تناولها يوميًا حتى وفاته عن عمر يناهز الثالثة والثمانين! وقد وُصف إردوس بأنه العبقري الرياضي الأكثر إنتاجًا مُطلقًا، إذ نشر خلال حياته ما يقرب من 1500 ورقة بحثية رياضية، وهو رقم غير مسبوق. كما كان يعتقد أن الرياضيات “نشاطٌ اجتماعي”، ويعيش حياته لغرضٍ وحيد هو كتابة البحوث الرياضية ومشاركة علماء الرياضيات الآخرين في حل مشكلاتها المُعقدة، حتى أن وفاته جاءت بعد ساعات فقط من حله لمشكلة هندسية في مؤتمر في وارسو. من المعروف أن أدوية تعزيز الدوبامين القوية تعمل على إثارة سلوك الوسواس القهري أو تفاقمه، وهو ما تجلى بوضوح في سلوكيات إردوس، إذ كان يكره أن يلمسه أحد، وكان يغسل يديه نحو خمسين مرة في اليوم. في سنة 1979، قبل رهانًا بقيمة خمسمائة دولار من صديقه الرياضي الأمريكي رونالد جراهام (Ronald Graham 1935 – 2020)، بأن يتوقف عن تعاطي المنشطات لمدة ثلاثين يومًا، وقد واجه إردوس التحدي وربح الرهان، لكن إنتاجه تراجع تراجعًا كبيرًا، ولذا اشتكى قائلًا: “لقد أعدت الرياضيات شهرًا إلى الوراء!”.
لم تكن حياة إسحق نيوتن (Isaac Newton 1643 – 1727) بالمثل عادية، إذ كان مُنعزلًا انعزالًا مُبالغ فيه، يقضي ما بين ست عشرة وثمان عشرة ساعة مُنهمكًا في الدراسة والعمل داخل غُرفة لا يوجد بها سوى الكتب وبعض شموع الإضاءة، ولا يخلد للنوم قبل الثانية أو الثالثة صباحًا، وربما في الخامسة أو السادسة صباحًا، لا يعرف لليوم نهاية، ومع ذلك يبدو في الصباح مُنتعشًا كما لو كان قد استغرق في النوم طوال الليل! يذكر كاتبا سيرته الذاتية ريتشارد ويستفول (Richard Westfall 1924 – 1996) وجيل كريستيانسون (Gale Christianson 1942 – 2010)، أنه كان ناسخًا مهووسًا، يكتب أكثر من مسودة لأعماله، ويعمل سبعة أيام في الأسبوع بتركيز شديد، وهو ما دفعه للبقاء أعزبًا، عازفًا عن النساء، وعن المشاركة في أية مناسبات اجتماعية أو أنشطة ترفيهية، مُهملًا لتناول الطعام، مُفرطًا في الجُهد العقلي، ما تسبب في إصابته بالاضطراب والإرهاق، وأدى به في النهاية إلى الموت!
يُعد المخترع ورجل الأعمال الأمريكي توماس أديسون (Thomas Edison 1847 – 1931) مثالًا بارزًا أيضًا لغرائب العادات لدى العباقرة، فقد كان شبيهًا بـنيوتن في تجنب الضرورات الأساسية مثل النوم، يكتفي منه يوميًا بساعتين فقط، مؤثرًا استغلال وقته في مهامٍ مُنتجة، ليُنجز عبر مسيرته العلمية 1093 براءة اختراع، من بينها الإصدارات الناجحة للمصباح الكهربائي (Light Bulb)، والفونوغراف (Phonograph)، وكاميرات الأفلام (Movie Cameras)، وبطاريات التخزين القلوية (Alkaline Storage Batteries). لم يقم أديسون بالطبع بكل هذا بمفرده، بل كان لديه فريق عمل على قدرٍ كبير من الكفاءة والموهبة في مختبراته البحثية.
لم يكن أديسون –كما هو شائع– أول من اخترع المصباح الكهربائي، بل سبقه ما يقرب من عشرين مُخترعًا في الحصول على براءات اختراع لإصدارات مُبكرة منه، منهم الكيميائي الإنجليزي السير همفري ديفي (Sir Humphry Davy 1778 – 1829)، الذي قدَّم سنة 1801 نموذجًا للمصباح الكهربائي للجمعية الملكية مُكونًا من شرائح البلاتين التي يتم تسخينها في الهواء الطلق بواسطة الكهرباء، لكن هذه الشرائط لم تدم طويلًا. وفي سنة 1841 مُنح المخترع البريطاني فريدريك دي مولينز (Frederick de Moleyns) أول براءة اختراع للمصباح المتوهج، مُستخدمًا مسحوق الفحم المسخن بين سلكين من البلاتين، لكن التطوير التجاري للمصباح تأخر حتى يمكن صنع خيوط تسخن لتتوهج دون أن تذوب، وحتى يمكن بناء أنبوب مُفرغ مُرضٍ لهذا الغرض. وفي سنة 1865 اختُرعت مضخة الزئبق التي أتاحت تفريغ الهواء، وطوِّر مصباح من الخيوط الكربونية مرضية، وذلك من قبل الفيزيائي الإنجليزي السير جوزيف ويلسون سوان (Sir Joseph Wilson Swan) سنة 1878، ثم توماس أديسون في السنة التالية، وبحلول سنة 1880، تقدم كلاهما بطلب للحصول على براءة اختراع للمصباح المتوهج، وتم حل التقاضي الذي أعقب ذلك بين الرجلين من خلال تشكيل شركة مشتركة سنة 1883. مع ذلك، ارتبط اختراع المصباح الكهربائي باسم أديسون، نظرًا لقيامه بتطويره ليُصبح أفضل وأرخص.
لم يبحث أديسون في الحقيقة عن المشكلات التي تحتاج إلى حلول، وإنما عن حلولٍ بحاجة إلى تعديل ابتغاءً للكمال، وهنا تكمن عبقريته. لعل أغرب الطقوس التي كان يتبعها هو تقديم طبق من الحساء لكل باحثٍ جديد يرغب في الانضمام إلى فريق عمله البحثي، فإذا قام الباحث بإضافة الملح إلى الحساء قبل أن يتذوقه استبعده تمامًا، مُبررًا ذلك بأنه لا يريد في مختبراته أناسًا يعتمدون على الافتراضات المُسبقة، وبالتالي يفتقرون إلى الفضول والرغبة في التجربة!
يستوقفنا أيضًا المخترع الياباني يوشيرو ناكاماتسو (Yoshiro Nakamatsu من مواليد 1928)، ويُعرف أيضا باسم دكتور ناكاماتس (Dr. NakaMats)، الذي حصل على براءة اختراع للقرص المرن سنة 1952، وله أكثر من 3300 براءة اختراع باسمه. يعتقد ناكاماتسو أن أعظم أفكاره قد انبثقت في ذهنه عندما كان على وشك الغرق! نعم، ما قرأته صحيح، إذ كان –وما زال– يؤمن أن الإبداع مرتبطٌ بتجويع الدماغ من الأكسجين، ويصف هذه الحالة الغريبة –والمُبالغ فيها– قائلًا: “أغوص حتى يؤدي ضغط الماء إلى حرمان الدماغ من الدم والأكسجين، وقبل خمس ثوانٍ فقط من الموت أتخيل اختراعًا، ثم أكتب الفكرة على مفكرة تحت الماء وأصعد مرة أخرى إلى السطح”! ومن عاداته الغريبة أيضًا أن يقضي بعض الوقت فيما يُسميه “غرفة الهدوء” الخاصة به، وهي حمام مبني من قراميد الذهب عيار 24، تلك التي من شأنها أن تحجب موجات التلفاز والراديو فتعمل على بعث التفكير الإبداعي! ناكاماتسو لديه أيضًا في منزله مصعد يزعم أنه يُساعده على التفكير تفكيرًا أفضل، وإن كان ينفي كونه مصعدًا، ويصفه بأنه مجرد “غرفة عمودية متحركة”!
أما العالم والمهندس المعماري الأمريكي ريتشارد بوكمينستر فولر (Richard Buckminster Fuller 1895 – 1983) الذي ألف أكثر من ثلاثين كتابًا، وطوَّر كثرة من التصاميم المعمارية، مثل القبة الجيوديسية (Geodesic Dome)، وارتبطت باسمه جزيئات الكربون المعروفة باسم الفوليرين (Fullerenes) لتشابهها الهيكلي والرياضي مع الكُرات الجيوديسية، فقد كان أيضًا غريب الأطوار.
كان مثل أغلب المخترعين الكبار ينام ساعتين فقط في اليوم، ويرتدي ثلاث ساعات عند سفره عبر المناطق المختلفة في التوقيت، كما كان حريصًا على توثيق حياته بأكبر قدر ممكن، فابتكر سجل قصاصات ضخم للغاية أطلق عليه اسم ديماكسيون كرونوفايل (Dymaxion Chronofile)، وثَّق فيه حياته كل خمس عشرة دقيقة، من سنة 1920 إلى سنة 1983. يحتوي السجل على أكثر من 140000 قطعة من الورق، بالإضافة إلى 64000 قدم من الأفلام، ومعها 1500 ساعة من التسجيلات الصوتية، ونحو 300 ساعة من تسجيلات الفيديو، ويشمل نسخًا من جميع المراسلات، والفواتير، والملاحظات، والرسومات، وقصاصات الصحف، يبلغ ارتفاع هذه اليوميات –الموجودة الآن في جامعة ستانفورد Stanford University– ما يقرب من اثنين وثمانين مترًا، ويُقال إنها تُمثل الحياة البشرية الأكثر توثيقًا في التاريخ!
أخيرًا يُعد آلبرت أينشتين (Albert Einstein 1879 – 1955) سيد الجمع بين العبقرية والعادات الغريبة. لم يكن هذا الرجل مجرد عبقري عادي، فقد كافح للتحدث عندما كان طفلًا، ما تسبب في قلق والديه وأطبائه كثيرًا، إلى جانب رفضه الدائم للسلطة! وربما أدى تطوره البطيء إلى منحه مزيدًا من الفرص للتفكير في العناصر الأساسية للحياة مثل المكان والزمان، ودفعه إحساسه بالدهشة تجاه هذه المفاهيم إلى طرح أسئلة غريبة، قادته في النهاية إلى نظريته في النسبية التي غيرت مجرى تاريخ العلم! أفاد سائقه أنه قام ذات مرة بقتل حشرة الجندب والتقطها من الأرض وأكلها، وأنه كان يحمل كمانه في رحلات مشاهدة الطيور ليعزف عليه والدموع تنهمر من عينيه!
كان أينشتين يمشي يوميًا لمسافة ميل ونصف بين منزله ومكتبه، وكان شغوفًا بالغليون ويُدخن التبغ بشراهة، وربما كانت أكثر عاداته غرابة أنه لم يكن يحب ارتداء الجوارب، حتى في المناسبات الخاصة أو العامة، إذ كان يُخفي قدميه في أحذية عميقة، ويقال إنه عندما كان شابًا كان يشتكي من أن إصبع القدم الكبير يتسبب دائمًا في ثقب جواربه، فتوقف عن ارتدائها! وعلى العكس من أغلب العباقرة، كان أينشتين ينام عشر ساعات متواصلة على الأقل يوميًا، موقنًا بأن النوم أكثر إفادة للعقل، “إنها لتجربة شائعة أن يتم حل مشكلة صعبة في الصباح بعد أن كانت تؤرقك في الليل، لقد عملت لجنة النوم على حلها”!
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن ثمة سُمعة سيئة للكربوهيدرات، كان أينشتين مولعًا بتناول السباجتي، ولعله أدرك –على العكس من نيوتن– أن الدماغ بمثابة أمعاء جشعة تنتظر مزيدًا من الطعام، وتستهلك 20٪ من طاقة الجسم، وإن كانت لا تمثل سوى 2٪ من وزنه –كان وزن دماغ أينشتين 1230 جرامًا فقط، مقارنة بالمتوسط: تقريبًا 1400 جرام–!
عزيزي القارئ: لطالما سعى الباحثون والأطباء وعلماء النفس إلى شرح ألغاز الجنون والعبقرية، لكنهم فشلوا في ذلك إلى حد كبير، ولذا ربما كانت الفكرة الأفضل هي أن نسمح للجنون والعبقرية بالاستمرار في شرح ألغاز العالم ذاته!
مقالات ذات صلة:
النظريات المفسرة للسلوك الإنساني
هل العبقرية يتم توارثها؟ أم أنها نتيجة التعليم؟ أم التربية؟
علماء أوزبكستان ودورهم في تطور الحضارة الحديثة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا