إصداراتمقالات

سر الوجود وغايته

نحن كبشر موجودون، ومعرفة كل إنسان بوجوده مسألة فطرية يدركها حضورًا من خلال وجدانه ولا يوجد إنسان يحتاج لتعليل وجوده، وبالرغم من أن إثبات الوجود أمرًا بديهيًا إلا أن قضية الوجود فى ذاتها بكل ما تشمله من مبدئها ومنشئها ومنتهاها وعلاقة مكونات الوجود ببعضها البعض، ودور الإنسان باعتباره أحد الموجودات فيها، كل هذا يعتبر من المسائل الهامة بل لا نبالغ إذا قلنا أنها من أول المسائل التى يحتاج كل إنسان للوقوف عليها ومعرفتها معرفة صحيحة، ذلك أن تلك المعرفة هى ما ستشكل رؤيته فى الحياة والتى سيبنى عليها كل تصرفاته وأفعاله ومن ثم يتحدد بناء عليها مصيره، وبالرغم من أهميتها تلك إلا أنه لا يوجد سوى قليلون ممن يلفت انتباههم البحث المنهجى عن معنى الوجود وغايته،  فنرى الغالبية مع الأسف ممن يتلقون تلك المعرفة بشكل اتفاقى لا إرادى من خلال المحيط أو الموروث أو المتعارف عليه دون محاولة للبحث أو الفهم.

فى مسألة الوجود توجد نظرتان، أولهما هى النظرة ذات التفسير المادى للوجود والتى يرى أصحابها أن الوجود ليس سوى العالم المادى وأن الإنسان هو محور الكون فكل شىء يسير حول رغباته ومسيرته وغايته المستقلة التى يختارها لنفسه بما يعنى عدم وجود خطة ورؤية وهدف متكامل قام عليه هذا الوجود بكل ما فيه من موجودات.

وثانيهما هى النظرة التى ترى فى الوجود بعدًا آخرًا معنويًا مجردًا، ومن ثم  بوجود محور آخر للوجود غير الإنسان، ذلك هو الله الخالق الحكيم المدبر، لكن فى كثير من الأحيان لم يسلم هؤلاء من سيطرة النزعة المادية على رؤيتهم تلك، فبرغم اعتراف بعضهم بوجود الله وعظمته وقدرته إلا أنهم يرون أن الغاية من الخلق هو من أجل سعادتهم ولهذا فقد خُلق الكون مسخرًا لهم كما أن فعل الله مسخر لطاعتهم وخدمتهم وحسب ما تتطلبه مصلحة الإنسان، فتصبح العبادة بالنسبة لهم وسيلة مادية لنيل السعادة، وما الجنة فى نظرهم إلا مكافأتهم لنيل السعادة الأبدية، وما النار إلا وسيلة للردع لما فيه مصلحتهم، هكذا يصبح الوجود لديهم بمثابة حلقة تبدأ من الإنسان وتنتهى بالإنسان، والله ليس سوى منفذ لها..

فى البدء كان الله

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لما كان كل موجود يفتقر فى وجوده إلى موجد (خالق) يخرجه إلى حيز الوجود، وهذا الموجد يحتاج بدوره إلى موجد آخر، وهكذا تنتهى الأسباب إلى الله، فالله هو واجب الوجود، بمعنى أنَّ وجوده من ذاته، هكذا لا يمكن مقارنة وجود الله بباقى الموجودات، وبالتالى لا يمكن أن يقع فى قبال وجود الله أى وجود آخر فهو الوجود المطلق، كما لا يمكن تصور وجوده فى مقابل العدم، فالعدم ليس بشئ موجود، ولو صار فى قباله شىء لكان محدودًا، ولو كان محدودًا لم يكن خالقًا، لأن كل محدود له حد لا يتعداه، ويصبح غير واجدٍ لما وراء حده، فكل محدود هو مخلوق، وكل مخلوق يحتاج إلى خالق، والله لا يحتاج إلى خالق فوجوده هو عين ذاته كما تقدم.

ولما كان الله هو مطلق الوجود فكل وجود منه، لذلك كان حائزًا على الكمال المطلق والعلم المطلق والقدرة المطلقة وهكذا، من هنا كان الله غنيا بذاته، أى أنه مستغنى ومستقل بذاته الآلهية عما سواها، ولا حاجة له لكل هذه المخلوقات والموجودات فلماذا خلقنا؟ ولماذا كان ينبغى أن يوجِد أو يكترث لوجود مخلوقات من الأساس؟ هل يعنى ذلك أن وجودنا من منطلق العبث فلا معنى ولا غاية؟

إن القضية أن الله لما كان غنيًا وعظيمًا بذاته، حيث أن ذاته هى منتهى العظمة والكمال، كان عالمًا بغناه وعظمته بشكل مطلق أيضًا، فعلم الله ليس كعلمنا الذى نتحصل عليه بعد جهل أو يتردد فيه الشك والظن، ولما كان هناك تمام لدى الله بالعلم والإدراك لكماله، لم يكن فعله سوى تجلى لعظمة ذاته، فكل شئ فى الوجود لم يوجد لأنه مستحق للوجود أو لغاية مستقلة عن الله وإنما لأن وجوده هو مظهر لتجليات عظمة الله، ولذلك كان لا بد لتلك الموجودات أن توجد، فمن مقتضى عظمة الله أن فاض بوجوده الذى هو من ذاته على باقى الكائنات.

سر الوجود

بعد كل تلك المقدمات فإن تصور ما يخرج عن دائرة الوجود المطلقة لله هو تحديد للذات الآلهية وهو ما تم نفيه، لذلك لا يمكن تصور وجود مستقل فى وجوده عن الله، ولا يمكن تصور وجود يمكن أن يسير بحركة ذاتية مستقلة عن غاية الله، بل إن كل الموجودات والأشياء هى من الله وإلى الله، فهو المبدأ وهو المنتهى، فنحن ملكه وفانون فيه وحقيقة وجودنا هى: أننا لله، ومصيرنا لله، وإنا لله وإنا اليه راجعون.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن هنا قد ينشأ فى الذهن سؤال آخر: إذا كان فعل الله تجليا لمظهر عظمته، فكيف يخلق الله وجودًا ناقصًا مليئًا بالعيوب، أليس يجب أن يكون هذا المظهر التام لعظمة الله متحققًا؟

غاية الوجود

إن العقل يحكم بأن أعظم مظهر لتجلى عظمة الله هو الجنة التى لا يتطرق إليها عيب أو نقص، فيكون تحققها متناسبًا مع درجة عظمة الله وعلمه وقدرته المطلقة، وهى غاية فعل الله وتحقق مشيئته، ولكننا نرى الإنسان يسفك ويقتل ويظلم، ونرى الأرض – كما أن فيها مظاهر للعظمة والكمال – ولكن فيها أيضًا مظاهر للنقص، فلا يمكن أن تكون هى مقصود الفعل الإلهى، أو هدفًا نهائيًا له، والأرض والسماء تفنى، فهل يعقل أن تكون تلك نهاية الوجود وغايته؟

إن العلاقة الحقيقية بين المخلوق الأكمل (الجنة) والمخلوقات الناقصة (الإنسان والأرض وغيرهما) هى أن هذه الأشياء وجدت لأجل تلك الغاية النهائية، بما يعنى أن هذه الخلوقات ستساهم فى صناعة الجنة، ومن هنا تصبح الجنة محلًا للإنسان بشكل عرضى، أما فى الأصل فهى تحقيق لعظمة الله ومظهر لتجلى كماله وعظمته، لذا كان لكل هذه الموجودات دخل وعلاقة فى إظهار العظمة الآلهية.

يقول الله سبحانه فى حديثه القدسى ” يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلى”

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من هنا كان على هذا الإنسان أن يسير وفق تحقيق الغاية الآلهية (الجنة) بأن يمتثل لطاعة الله وأوامره ونواهيه من خلال شريعته المحكمة والدقيقة التى إن التزم بها الإنسان وطبقها أدت إلى تحقيق غاية الوجود، ومن خلالها أيضًا يسعد الإنسان وينجو، من هنا كانت إرادة الله التكوينية فى خلقه للموجودات وإرادته التشريعية فى إرسال الرسل والرسالات هى وسيلته إلى تحقيق غايته العظمى.

( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)

شاءت إرادة الله أن تكون وسيلته فى تحقيق تلك الغاية من خلال الإنسان المكلف المختار، ولفهم ذلك نضرب مثالا..

تخيل إنسانًا مبدعًا أراد أن يبرز عظمة إبداعه من خلال تصميم دقيق، فصنعه بنفسه..
وتخيل شخصًا آخر جاء بتلميذ كان فى البداية جاهلاً بكل شئ فعلمه ورباه، وتمكن من جعله قادرًا على إبداع ما يدور فى فكره على أحسن ما يكون فأى الاثنين يكون أكثر إبداعًا؟!

وتخيل أن هذا المعلم وضع تلميذه فى مكان لا يوجد فيه من الوسائل والأدوات سوى بعض المواد الخام، وطالبه بأن يستغلها ليصنع بها إبداعه..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم تخيل مرة أخرى بأن هذا التلميذ وُضع فى بيئة يعمل كل من فيها على عرقلته ويسعون بكل قواهم لمنعه عن إنجاز إبداعه حتى إنهم قد يصلوا إلى حد القضاء عليه ليقضوا بذلك على حلمه..

فجاء هذا المعلم وأسّر إلى تلميذه بسر اختراعه وخطته وكيفية الوصول إليه، وبالسلوك الذى عليه أن يتبعه ليسلك طريقه، ثم أنزله فى تلك البيئة المعادية فكان عليه أن يسعى لإقناع الناس بأهمية إبداعه وخيريته، بل أن يقنعهم بمشاركته ويحولهم إلى أصدقاء مناصرين ويوكل لهم عملية الإبداع..

فأى تجلى للعظمة ستكون لمثل هذا المعلم إن استطاع أن يحقق من خلالهم ذلك الإبداع المحتوم؟!

(الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

لا معنى لتأخر مظهر عظمة الله وتحققه، وذلك لا يكون إلا لشيئين؛ إما جهل بحقيقة الكمال أو عجز عن تحقيقه، وكلاهما منزه عن الذات الآلهية سبحانه وتعالى، فلا محالة أن هذا الكمال متحقق، سواء أدركناه نحن البشر أم لا، وليس جهلنا بالأمر المتحقق إلا ما يعود علينا نحن فقط بالخسارة، فهو ما سوف يمنعنا من استفادتنا بحقيقة هذا الوجود والمشاركة فى المسير به نحو غايته.

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة