إصداراتمقالات

سراب الديمقراطية

“إنما تسمى حكومتنا ديموقراطية لأنها فى أيدى الكثرة دون القلة، وإن قوانينا لتكفل المساواة فى العدالة للجميع، فى منازعاتهم الخاصة، كما أن الرأى العام عندنا يرحب بالموهبة ويكرمها فى كل عمل يتحقق، لا لأى سبب طائفى، ولكن على أسس من التفوق فحسب”، هكذا تكلم بركليس فى خطبته الجنائزية الشهيرة التى أرسى بها دعائم الديمقراطية كنظام حكم جديد فى اليونان أثناء الاحتفال الشعبى بدفن قتلى الحرب ضد اسبارطة، لتكون تلك الخطبة بداية لواحد من أكثر أساليب الحكم هيمنة على العالم حاليًا، وهو الحكم الديموقراطي والتى تعد الترجمة الحرفية لأصل اللفظة اليونانية (ديموس-كراتيس) أو حكم الشعب، أما الديمقراطية فتعنى كما تعرفها ويكيبديا (شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المؤهلين على قدم المساواة –إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين- فى اقتراح، وتطوير واستحداث القوانين. وهى تشمل الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية والثقافية التى تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسى)، لتمثل تلك الكلمات الرنانة مصدر إلهام للعديد من الشعوب سعيًا إلى تحقيق الديمقراطية التى يرى البعض فيها الكلمة النهائية لتقرير نظام الحكم الأمثل، أو على أقل تقدير الضمان لتداول السلطة وحرمان مجموعة ما من الإنفراد بالسلطة، والحقيقة أنه بالنظر إلى فلسفة النظام الديمقراطي القائمة على الحرية المطلقة للأفراد فإن الديمقراطية لا تنفك عن الرأسمالية والليبرالية.

لذا ومع أهمية نظم الحكم فى حياة الإنسان ككائن إجتماعى بالفطرة، يتكامل بغيره ويحتاج فى علاقاته التكاملية تلك إلى من يقيها المزاحمة، كان النظر إلى فلسفة النظام الديمقراطى لا مناص منه، فالناظر إلى نشأة الديمقراطية يجدها تعانى من غياب التأصيل الفكرى والفلسفى، اثر نشأتها كرد فعل جماهيرى على اسقاط النظام الإقطاعي الذى ساد فى تلك الحقبة، لذا ومع غياب البناء الفلسفى المتماسك لم يكن غريبًا ما طال النظام الديمقراطى من تعديل وتطوير وترقيع إلى أن وصل إلى هيئته الحالية، إلا أن هذا التطوير لم يمس مطلقًا المنشأ المادى للديمقراطية، حيث تدور الديمقراطية فى فلك المصلحة الخاصة الفردية، والتى ترى أن حكم المصلحة الفردية سيؤدى بالضرورة إلى صلاح المصلحة العامة، انطلاقًا من الارتباط الوثيق بين كلًا من المصلحة العامة والخاصة، وهو ما سيخلق توازنًا ترى فيه الديمقراطية الحل الأمثل لانتصارها، حيث تضمن سعى مستمر من الأفراد لحماية مصالحهم الخاصة، وكأمر مفروغ ومنه لا شك أن ذلك المفهوم لابد وأن ينتقل إلى جناحى النظام الديمقراطى من اقتصاد وإجتماع، فتكون الحرية الإقتصادية والإجتماعية هى الدعائم الأساسية التى يرتكن عليها النظام السياسى، وكما أن الديمقراطية رأت فى التوازن حلًا لتفادى الصدامات، فكان التوازن بين المنافسة وسعر السلع وأجور العمالة ضمانًا لخلق اصلاح طبيعى مستمر للاقتصاد، وكذلك الأمر فى الحرية الإجتماعية حيث تصبح الحرية الفردية مُصانة ما دامت لا تتعارض مع حرية الغير وهو ما عبر عنه بيركليس بقوله: “ثم إننا نتيح فرصة مطلقة للجميع فى حياتنا العامة، فنحن نعمل بالروح ذاتها فى علاقاتنا اليومية فيما بيننا. ولا يوغرنا ضد جارنا أن يفعل ما يحلو له ولا نوجه إليه نظرات محنقة، قد لا تضر ولكنها غير مستحبة”.

إلا أن مع غياب المنشأ الفكرى للديمقراطية فسرعان ما ظهر عوارها والذى غطته الحالة الاقتصادية للدول الكبرى، إلا أن هذا لم يمنع الفاحص المدقق من أن يلاحظ وقوع الديمقراطية أسيرة لعدوها التى لملاقاته نشأت، فمع فساد الطبقة الأرستقراطية فى النظم الحكم الإقطاعية أصبحت الدولة ومواردها مسخرة لصالح الفئة القليلة، لذا ومع نشأة حكم الأغلبية مال البعض للظن –وهو فى هذا مخطئ- أن بهذا إنتهى حكم الأقلية ومصالحها، إلا أنه وبالنظر إلى التجربة الديمقراطية نفسها ومع ارتباطها الوثيق بالرأسمالية، أصبحت رؤوس المال المتحكمة وفى إطار المصلحة الفردية الخاصة وفى ظل رغبتها فى الحفاظ على الوضع الحالى بل وتنمية ذلك النفوذ، تمتلك الآلة الإعلامية وجميع الوسائل الدعائية وغيرها والتى من شأنها التحكم فى مسار العملية السياسية، وهو ما يبدو جليًا فى دولة تعد منارة للديمقراطية كالولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، بل إننا نجد هذا منطبقًا وبشدة حتى على الوضع المصرى الذى أثارت الاختيارات الجماهيرية السياسية المدعومة –أو منطلقة من- الآلة الإعلامية فى الأعوام الأخيرة التساؤل حول مدى قدرة الديمقراطية على إنتاج حكم ينصب فيه إهتمامه على أفراد المجتمع عامة.

ولا نكتفى بذلك فى النظر إلى الديمقراطية، بل إن النظر إلى الجانب الإقتصادى أو الرأسمالية منها يثير التساؤلات عن مدى واقعية الفكرة نفسها، فالفرضية المطروحة والتى ترى أن الرأسمالية والحرية الإقتصادية قادرة على خلق توازن طبيعى، حيث أن المصلحة الشخصية ودوافع حمايتها لدى الفرد كافية لتهيئة جو من التنافسية يصب فى صالح المستهلك والمنتج، تتجاهل حقيقة أن تلك الفرضية تقتضى وجود عقلية تحليلية لدى كل فرد من أفراد المجتمع، بل ولا نبالغ إن ذهبنا إلى القول أن تلك النظرة قد تكون المنشأ لسياسات إمبريالية توسعية لدى الدول الكبرى، إنطلاقًا من إيجاد موارد وفتح أسواق جديدة تحمى وتساعد وتنتصر للمصلحة الشخصية لأفراد الطبقة الاقتصادية والسياسية، حيث تظل الطبقة الحاكمة الارستوقراطية حية وإن تقنعت بقناع الديمقراطية وقبول الأغلبية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا يسعنا التطرق إلى الحرية الإجتماعية دون الإنتباه إلى ما يبرزه ذلك المدخل من الديمقراطية من مادية للفكرة، سواءًا كانت تلك المادية متعمدة وإن اختفت وراء التخبط الواضح فى جزئيات النظام، بين تجنب المنشأ الإلهى أو الاكتفاء بالتحصن بمبادىء الحرية الشخصية والعقدية، إلا أن هذا ليس وحده اللغط الذى لحق بالجانب الإجتماعى للديمقراطية، فالإصرار على الحرية الشخصية دائمًا وأبدًا يُتبع بالقانون الذى يضع حدود تلك الحرية بـ (بما لا يتصادم مع حرية الغير)، وهنا تسقط الديمقراطية مرة أخرى أسيرة للمصلحة الشخصية والفردية، مع مطاطية لفظة حرية الغير والتى لم توجد لها الديمقراطية ميزان واضح ومعيار بين، مما يعود بالديمقراطية إلى أن تأمل فى التوازن المراد بأن يحل تلك الإشكالية، لتظهر مادية الفكرة الديمقراطية، بل وفشلها فى التعاطى مع الأزمة التى كانت سببًا لظهورها فى الأساس، إلا أن هذا لا يعنى البتة رفض الإجراءات الديمقراطية بالكلية كما قد يظن البعض، وإنما هو اسقاط للفلسفة الديمقراطية المادية كحل (أوحد) –كما يرى البعض- للأزمات الإنسانية،ليصبح موضع الديمقراطية من الحضارة الإنسانية كما وصفه د. عبد الوهاب المسيرى مع المفكر الغربى فوكوياما بقوله: “إن لدينا مشروعًا. فنحن نؤمن بالله ونعتقد أن بإمكاننا تغيير العالم. نعم، ما زلنا نحلم بإقامة حكومات تحافظ على العدالة وإنسان غير ملتزم بالضرورة باللذة ومصلحته الشخصية. ونؤمن بأن بإمكاننا تحقيق قسط من التقدم مع الحفاظ على العائلة، ويمكننا تضمين الإجراءات الديمقراطية في نظام يسلم بالقيم الإنسانية العامة التي تتجاوز ديمقراطية عد الأصابع”.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة