إصداراتمقالات

سحابة شتاء

فى أيام الحر الشديد وعندما تصبح حرارة الشمس مصدرا للإزعاج والإجهاد تظهر الحاجة إلى سحابة, سحابة يستظل الفرد بها لتحميه من أشعة الشمس وتريح وجهه من عناء التعرض الدائم لهذه الأشعة, وعندما تظهر هذه السحابة يتحرك الفرد بصورة تلقائية للاحتماء بظلها وتكون بمثابة المنقذ فى هذا الظرف, ولكن على الآخرين ألا يطمحوا بأن يسعهم الظل جميعا؛ فظل سحابة الصيف مساحته محدودة وعلى الفرد المحتمى به ألا يطمح باستمرار هذه الحماية فسحابة الصيف سريعا ما ترحل ورحيلها محتوم ومحتوم أيضا رحيلها بدون ترك أثر فبعد رحيلها يعود الموقف من حيث بدأ بأن يصبح الفرد مواجها لأشعة الشمس بلا حائل بينهما.

وفى الجهة المقابلة أى فى فصل الشتاء لا نكون بحاجة إلى الظل، ولا نتذكر السحاب بل السحاب يتذكرنا ويأتى محملا بالمطر بل إن ظهور السحاب فى فصل الشتاء قد يصبح دافعا نحو الاحتماء بسقف أو ما شابه وذلك تحسبا لسقوط الأمطار فهذه هى علاقة معظمنا بسحابة الشتاء, ولكن من الذى يفتقد سحابة الشتاء؟
إن من يفتقدها ويعلم أهميتها هو ذلك الفلاح الفطن الذى ينتظر سقوط الأمطار باعثة فى أرضه ومحصوله الحياة فسحابة الشتاء عندما تظهر قد يكون أثرها العاجل هو الغيم والبلل والبرد وصعوبة المشى ولكن أثرها الآجل هو إنبات المحاصيل التى يأكل منها الحيوان والإنسان وإدرار الدخل على صاحب الأرض بل قد يكون المطر هو المصدر الوحيد للشرب فى بعض الأماكن فهذا هو أثر سحابة الشتاء.. أثر دائم وممتد غير مرتبط بظهورها للعيان وغير مؤقت بل هو دائم ومتجدد وغير محدود فهو يشمل الجميع.

وحال الأفكار التى نعتنقها وتؤثر فى حياتنا كحال سحابتى الصيف والشتاء فمنها ما ظاهره عظيم ويبدو وكأنه هو ما نحتاجه وما ينقصنا ولكن سرعان ما نكتشف أن باطنه أجوف وأثره معدوم ومعدِم، ومنها ما ظاهره يبدو مخيفا وحمله ثقيلا ولكن حقيقته نور وأثره محمود وخيره يعم. إن صاحب الفكرة الحق هو دائما مدعوم بمطر فكرته, كلما أوشك عقله على البوار رواه بمطر فكرته, وأما صاحب الفكرة الوهمية فسيهيئ له أن ظل فكرته دائم، ولكن لقصر نظره عن رؤية المستقبل ومحدودية هدفه سيتفاجأ باندثار سحابته مخلفة لا شئ فلا أثر بقى ولا سعادة دامت بل ربما يكون هذا الظل هو ما يحجب عنه الخير الحقيقى.

إذا فالأفكار والمعتقدات قد تكون حق وصحيحة وترتفع بمعتقدها إلى أعلى الدرجات وقد تكون باطلة وزائفة وتهبط بصاحبها إلى أسفل، والأفكار كثيرة والمغالطات هى الأخرى كثيرة وكل إمام يمجد فى فكرته ويستخدم الحجج والبراهين التى يحاول إقناعنا بصحتها لنقتنع بفكرته فكيف إذا نستطيع الحكم بصحة فكرة ما وبطلان أخرى وكيف نبنى معتقداتنا؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن كل فرد حر فى اختيار معتقده وفكرته ولا يملك أحد أن يفرض أفكاره على شخص غيره ولا توجيهه لأفكار ما لمجرد أن المجموعة أو المجتمع أو الأغلبية تتبناها؛ فالانضمام لفكرة ما وتبنيها يصدر من الفرد عن حرية كاملة وقناعة تامة؛ فإن ما يحتاج الفرد تعلمه ليس أى فكر يتبنى ولكن كيف نصل إلى الفكر فنحن لا نتعلم كيف نقود السيارة إلى القاهرة بل نتعلم كيف نقود وكيف نستخدم الخرائط وعندها سنصل بالسيارة إلى القاهرة أو الاسكندرية أو إلى أى مكان، وحيث أن أفكار الفرد ومعتقداته هى ما تبنى عليها كل أفعاله وهى المحرك الأساسى لإرادته، لزم أن يكون الطريق الممهد لها محكما وخاليا من الانحرافات والشبهات.

والتفكير الصحيح يعتمد على المنطق السليم فإذا أراد الإنسان أن يبنى رؤيته بطريقة سليمة أو أن يتبنى قضية ما أو معايير أخلاقية أو اجتماعية فلا بد أن يستند فى اعتقاده على دليل منطقى واقعى وأن يبتعد عن أهوائه الشخصية ومصلحته الفردية، ولا بد من العلم بأن منهج التفكير لا ينقل الإنسان إلى مستوى العصمة ولا يجعله غير قابل للخطأ فى التفكير ولكن تبنى الفرد لمنهج سليم فى التفكير يزيد من فرص وصوله إلى نتيجة سليمة وأيضا إذا توصل العقل لنتيجة خاطئة عندها سيعمل منهج التفكير الذى سلح به عقله كجرس إنذار لينبهه إلى أن عليه إعادة التفكير فيما توصل إليه.

فسحابة الشتاء لكى يظهر أثر مطرها تحتاج إلى أرض خصبة وبذور صالحة وأسمدة وفلاح ماهر يعلم كيف يعتنى بالبذور والثمار ومتى يجمع المحصول وهذه كلها مبادئ عامة وعلل تؤدى إلى ظهور معلول ما وهو المحصول الصالح للاستخدام والذى ينتفع به الجميع ومن قوانين الكون أيضا أنه لا معلول يأتى من غير علته فهذا محال بحيث أنه إن انتفت العلة انتفى إمكان وقوع المعلول أى إن لم تكن الأرض مهيئة والبذور صالحة والفلاح ماهر لن يكون هناك محصول وهذا ليس ِلعَيبٍ فى المطر بل لضعف القابل؛ فالأرض لم تتهيأ بالشكل المطلوب لقبول المطر بل إنه قد يتبدل المعلول لتتبدل العلل، فالبذور إن تم استبدالها ببذور سيئه سينبت زرع ضار، وهذا أيضا ليس لعيب فى المطر ولكن سوء الاستخدام لهذا الخير الذى تمنحه لنا الطبيعة فكما يُقال (المطر الذى لا خلاف فى ماهيته اللطيفة ينمى فى البستان شقائق النعمان وفى الصحراء ينمى الشوك)  فسلوك الطريق السليم يؤدى إلى الفكر السليم الذى يعم خيره الفرد والمجتمع فهذا الكون جبل وفعلنا النداء ولا بد أن يعود إلينا الصدى.

ولا شك أن تعيين الهدف بشكل واضح وسليم يسهم فى رسم الطريق وتعيين المسار لأن الهدف هو القوة الدافعة المحركة للإنسان والذى تتعلق به إرادته فمن يريد أن يصبح طبيبا سيدرس الطب ومن يريد أن يصبح مهندسا سيدرس الهندسة وهكذا هو الحال بالنسبة لأفكارنا؛ فلا بد من تعيين الهدف لوجودنا وذاتنا وحياتنا بشكل عام فمن ينظر لنفسه نظرة حسية شهوية بعيدة عن العقل فسيسلك الطريق المؤدى إلى هذه الملذات ومن يرى أن الغاية من وجوده أن يعيش لنفسه فقط فسيمارس كل ما يخدم مصلحته حتى وإن أضر بالآخرين ومن يرى أن الحق مع الأقوى فإما أن يكون قويا ويستضعف الآخرين، وإما أن يرضى بالعيش ذليلا للأقوى ولكن من ينظر لنفسه ووجوده نظرة عقلية ملكوتية بعيدة عن الشهوات والأهواء والمصالح هذا هو من سيتحمل مشاق الطريق للبحث عن الحقيقة هذا هو من سينتظر سحابة الشتاء ومطرها ويهيئ لها الأرض والبذور الصالحة وكل ما يلزمها لتنشر خيرها عليه وعلى الجميع وقد يصبح هو يوما ما سحابة شتاء أينما حل هو وأينما ورد ذكره ناشرا للفضيلة والخير والحق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دعاء محمود

طالبة بكلية الطب جامعة المنصورة

باحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة

مقالات ذات صلة