مقالات

رمضان آخر

رمضان آخر

أيام معدودات ونستقبل الشهر الجميل…شهر رمضان ، تمتلئ المساجد، وتزين المصاحف بالقراءة. يطول القيام، وتعلو أصوات ابتهالات الأمة ليلا ونهارا أن ينصرها الله على أعدائها، كما ابتهلت مئات السنين دون أن يستجيب الله لها ! كيف يخزي الله كل هذه الدعوات؟! أليس هذا التضرع والخشوع كاف أن ينصرنا الله؟!

على العكس من ذلك؛ يكتب صديقي الملحد على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي: “لا نحتاج إلى الله كي نغير العالم”!

لمّا رفع الله السماوات ووضع الميزان، وبسط الأرض بالقسط، شاءت حكمته بعظيم علمه؛ أن تنفذ فيهما إرادته نفاذا طوليا عبر سلاسل من العلل والأسباب، فهو واضعها وهي قائمة به منتهية إليه، هي حكمته ورحمته وعدله وعنايته ومقتضى علمه، فهو مسبب الأسباب لا مؤثر فيها غيره.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بعض هذه العلل تنفذ مباشرة؛ كالمُشاهد في الكون -غير المخير-من نظام واتساق وجمال بديع.

وبعضها بشكل غير مباشر؛ في حياة الإنسان المخير، الذي أفاض الله عليه بإرادة من إرادته، ثم أعطَي له الإمكانات العقلية التي تميز وتعرف الخير والكمال والنظام الأصلح، الذي يهديه إلى بعض هذه العلل. ثم بعث له بجزئيات النظام الأصلح التي لا سبيل له إليها بالعقل وحده، وبمن يبلغه هذا النظام على أتم وجه من الرسل والأنبياء، وجعل هذا النظام مستدل على صحته بأدنى تأمل من العقل.

والاستعانة بالله تكون بالخضوع لقوانينه ونظام كونه؛ المتمثل في الأخذ بأسبابه. فالاستعانة بالله في الرزق مثلا؛ تكون بالأخذ بالأسباب التي وضعها الله للرزق. والاستعانة به في إقامة الدول يكون بتطبيق العدل والقواعد والشرائع التي أمرنا بها. أن تأتيه من حيث أمرك، ومن حيث أراد.

لذلك لا تكون الاستعانة بالله في الرزق بأن يعتكف الإنسان في المحراب يدعو الله أن يرزقه …يزيد في دعائه في شهر رمضان…  ولا تكون أيضا بأن يلجأ للسرقة والغش والخداع، أو للسحر والدجل والشعوذة؛ فما هذه أسباب الرزق التي وضعها الله. ومن خالف ذلك إما جاهل غير عالم، أو مشرك بالله؛ يعتقد في غير الأسباب التي أرادها الله نفعا، أو غير راضٍ بنظام الله وحكمته.

ولأن الله هو مسبب هذه الأسباب، وهو الوحيد المؤثر في الوجود، وجب أن يكون مع هذا الأخذ بالأسباب انبطاح تام لله؛ عالما ألا قيمة لهذه الأسباب إلا بالله، ولا أثر لها بل لا وجود لها إلا بالله؛ فهو مسبب الأسباب، وهي قائمة به.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فأحيانا يقود الإنسان جهله إلى الظن أن الأثر الذي حصّله إنما بسبب هذه الأسباب في ذاتها أو بسبب قدرته هو، ناسيا أن أسباب بقاء قلبه نابضا مثلا ليست بيده! وأسباب بقاء دمه غير متخثر لا سبيل له إليها! ولو كان قائما بنفسه مستغن عن غيره لكانت بيده أسباب بقائه حيا! ولو كانت الأسباب قائمة بذاتها لما احتاجت لمن يأخذ بها كي تعطي النتائج.

وفوق الأسباب والعلل الواقعة تحت يد الإنسان علل وأسباب أخرى: بعضها مادية لا يعلمها؛ ودليل ذلك اكتشافاته المستمرة لجديد منها. ولا ينفي العقل وجود أسباب وراء المادة لا يعلمها الإنسان ولا سبيل له إليها؛ وقد تحدث الشرع عن بعضها.

وبعضها يعلمها لكن لا سبيل له عليها، كالمناخ وأثره على رزق الإنسان في نواحٍ ما. وأخرى يعلمها وله قدرة عليها لكن ليست لفرده المتعين، كعلم التاجر مثلا بأن الدعاية من أسباب زيادة الرزق، لكن يمنعه ضيق ذات يده من الأخذ بتلك الأسباب.

ولأن الأسباب لا نفع لها في ذاتها كما سبق، ولأن هناك أسبابا لا سبيل لنا إليها علما أو قدرة، ولأن لا قدرة لنا لذاتنا ولكنه فضل الله علينا، ولأننا في بعض الأحيان نكون عاجزين حتى عن الأخذ بالأسباب؛ يأتي هنا ضرورة الاتكال التام على الله بعد الأخذ بالأسباب قدر الاستطاعة.

فأول الاستعانة بالله وصميمها هو الأخذ بأسباب الله في كونه، فهي طريقه الذي أمر. وثانيها الاتكال عليه فيما ليس لنا علم به أو قدرة عليه؛ فالتكليف لا يكون إلا على قدر الاستطاعة. وآخرها الرضا بالنتائج.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبالأول وحده أخذ الغرب، والثاني وحده فعله الشرق، فغاب النظام الأصلح في الكون الاختياري الواقع تحت إرادة الإنسان، وغاب الرضا الحقيقي المبني على العلم ثم العمل.

ومنبت ذلك كله العلم؛ العلم بأن الله هو مسبب الأسباب كما سبق، والعلم بأنه خير محض لا يصدر عنه إلا خيرا محضا فيأتي الرضا الحقيقي.

إن دعاءنا لله هو من الأسباب التي أمرنا الله أن نأخذ بها، كما أنه إعلان للعجز والحاجة له، وإعلان أنه لا إله إلا هو، ولا مؤثر غيره في الوجود، وإعلان خضوعنا وتوكلنا التام عليه. والدعاء في رمضان والاجتهاد فيه مخصوص بمزيد فضل. لكنه لا يغني عن الأخذ بباقي الأسباب، أو عن العلم والعمل؛ فما هكذا أمرنا الله.

(لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا) حديث شريف.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة