إصداراتمقالات

خلافنا نقمة

في لحظات قلائل بدا الوضع في مصر والأوطان العربية عقب ما يسمى بالربيع العربي وضعاً مثالياً، حيث اتحدت الرؤى والأهداف، واكتملت الصورة المنشودة، وظهرت في الأفق معالم نهضة حقيقية منبثقة من إرادة تلك الشعوب في التغيير. إلا أنه قد طغت بعض الأخلاقيات الهدامة والمعارف والمفاهيم المغلوطة على تلك الإرادة في تبديل الوضع للأفضل، في ظل غياب أو تغييب لثقافة الاختلاف والحوار البناء، فصار القرار لا يُتخذ بناءًا على نظرة موضوعية حيادية عقلانية للمُعطيات، وإنما ينبع من الأهواء الشخصية لأصحاب الصوتِ الأعلى إعلاميًا أو شعبيًا، مما نتج عنه وبكل أسف مرحلة عبثية اتُخذت فيها الكثير من القرارات التي كانت سبباً في رجوعنا لنقطة الصفر، بل أبعد من ذلك بكثير.

والمتأمل لثقافة الاختلاف تلك ومنهجية الحوار في واقعنا المعاصر يرى – وبكل وضوح – أن الأغلبية من متصدري المشهد من الإعلاميين والمحللين السياسيين فضلاً عن السياسيين أنفسهم، قد وقعوا – بقصد أو دون قصد – في موانع للتفكير السليم نتج عنها تضليل الرأي العام وسَوقِه – من قِبلِ كل فريق – بغير هدى أو عقل

. من تلك الموانع على سبيل المثال؛ التطرف الفكري أو #الثنائية_الفكرية، وهي ببساطة حصر للاحتمالات أو التوجهات المتاحة في احتمالين فقط متناقضين ، إما يمين أو يسار، إما مع أو ضد، إما أبيض أو أسود، فالمنطقة الرمادية معدومة الوجود لدى هؤلاء! وهذا الفكر ينتج عنه قصور شديد في الإدراك ومانع كبير من الإلمام بالصورة الكاملة لمن أراد أن يُحلل أو يساهم في الحل، إذ أنه بين كل احتمالين درجات كثيرة، يجب أخذ احتمال وجودها في الاعتبار، ووضعها في الحسبان، ولسان حال منتسبي ذلك المانع في التفكير والإدراك يقول : ” إن لم تكن معي فأنت معهم، وإن كنت معهم فأنت عدو للوطن أو عدو للدين وهكذا … إلخ ” ثم يبدأ في التهميش والإقصاء تارة، والهجوم الغير مبني على إقامة الحجة أو الدليل أو البرهان تارة أخرى، ثم تبدأ مرحلة من الانقسام الشديد لتيارات عدة، تظن كل فئة منهم أنها على الحق، وما سواها باطل يجب أن يُمحق أو يُزال

. أيضًا من صور تلك الموانع للتفكير السليم؛ ما يسمى بفخ #التعميم، وهو سحب حكم معين على فئة بأكملها – سواء أكان هذا الحكم سلبي أو إيجابي – لمجرد صدور موقف أو أكثر من بعض المنتسبين لتلك الفئة، فيخرج بتصور ذهني عن مجمل المنتسبين لها بناءًا على ذلك الموقف، فيقول هذا الملتحي إرهابي أو متشدد وآخر أيضاً اتضح أنه متشدد، فيخرج بالقاعدة – المبنية على الاستقراء لبعض المشاهدات – بأن كل الملتحين إرهابيين أو متشددين

اضغط على الاعلان لو أعجبك

. وخطورة ذلك المانع لا يقع في ذاته فحسب، بل فيما يترتب عليه من أحكام صادرة على الفئة بأكملها ببعض الاستقراءات الناقصة، مما ينتج عنه في كثير من الأحيان أبشع صور الظلم وحملات التشويه وإلصاق التُهم، مثلما يتعرض له الدين الإسلامي والمسلمين عالميًا في الآونة الأخيرة من حملات التشويه والظلم لمجرد تلك الحوادث الفردية التي تحدث عن جهل بعض المنتسبين له. ومن تلك الموانع أيضًا؛ استخدام #المبالغة في تهييج المشاعر وشحن الرأي العام، بما هو غير حقيقي ومخالف للواقع، وقد تعمد الإعلام المحلي والعالمي اعتماد تلك الوسيلة لتوصيل بعض الرسائل الهدامة، أو للترويج لبعض القرارات المصيرية مثل شن الحروب أو احتلال الدول بدعوى القضاء على الإرهاب، والتي اتضح كذب مُدعيها بعد ذلك.

وتعد موانع التفكير السابقة من أبشع صور الكذب فضلاً عن كونها مصدرًا للتضليل والإيهام بعمق الاختلاف والصراع بين أطراف الوطن الواحد، والتي تُؤصل لمنهجية تغييب العقل الفردي واتباع العقل الجمعي أو ما يطلق عليه سياسة القطيع، الذي تحكمه العواطف والنزعات الطائفية والعرقية وغيرها بعيدًا عن العقل والدليل والبرهان، مما يوصل ذلك الخلاف إلى طريق مسدود لا ينفع معه الحوار أو النقاش ويبقى منطق القوة – بالمعنى الشامل لها – هو الفيصل في الانتصار للرأي وفرضه على باقي الأطراف

. ولا تُغني النية الطيبة أو إرادة الخير في ظل وجود مانع من موانع التفكير السليم، من ثنائية أو تعميم أو مبالغة، فالدبة التي قتلت صاحبها كانت مُريدة للخير، وكثير ممن يريدون الخير في مجتمعاتنا لا يصلون إليه على الرغم من بذلهم الشديد في سبيل تحقيقه، ذلك بأنهم في البداية لم يقيسوا تحركاتهم وأفعالهم بمعايير العقل البرهاني المتجرد قبل انطلاقهم.

إننا بحاجة لذلك العقل المتجرد من كل قوى مخالفة للفطرة العقلية السليمة والتي هي من صفات الإنسان الأساسية؛ ذلك التجرد من القوى الشهوانية والقوى الغضبية التي إن طغت على قواه العقلية لم يختلف كثيرًا عن الحيوان، والتي تُبعده عن عدالة الأقوال والأفعال واكتساب مكارم الاخلاق واجتنابه سيئها.

ذلك العقل الذي يكسبه الوعي القادر على التمييز بين الغث والثمين، بين الضال والمهتدي، بين الكاذب والصادق، بين المنافق وصاحب المبدأ الذي لا يتغير. ذلك العقل الذي يُنتج من الحوار الإثراء ومن النقد البناء، لتصبح أطياف المجتمع المختلفة في التفاصيل، متفقة فيما بينها إجمالاً على قيم وثوابت لا تتغير ولا تتبدل؛ ليصبح خلافُنا رحمة لا نقمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

#بالعقل_نبدأ

أحمد عبد الدايم

محاسب

باحث بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية

مقالات ذات صلة