إصداراتمقالات

حمامة تهرّب المخدرات

القبض على حمامة في كوستاريكا تهرّب المخدرات للسجناء بسجن متوسط الحراسة!

الخبر السابق ليس مزحة، والأكثر من ذلك أنّ هذه ليست الحادثة الأولى، بل هناك حوادث مماثلة في الأرجنتين وكولومبيا! أما في كوستاريكا فقد اقتصرت المهمة سابقا على القطط والكلاب!

ويعتقد المسئولون أنّ أحد النزلاء هو من قام بتربيتها وتعليمها ذلك!

لا أعرف نوع الحمام الذي استخدمه السجين، لكن عند القراءة عن تدريب الحمام الزاجل مثلا؛ نجد أنها عملية معقدة جدًا وتحتاج لوقت طويل وخبرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حيث يبدأ التدريب من عمر شهرين ويستمر بعد ذلك. كما يبدأ بنصف ساعة يوميا في الصباح والمساء، ثم تزداد تدريجيا لساعة. كما يبدأ بمسافات قصيرة، ثم تطول تدريجيا حتى تصل إلى مئة وعشرين كيلو مترا. كما ينقسم التدريب إلى ثلاثة أنواع بالتدريج، يبدأ بطريقة التجويع وينتهي بقطع المسافات الطويلة!

عندما أحاول تخيل الإصرار والتصميم الذي يمتلكه هذا السجين، والذي دفعه إلى تربية هذه الحمامة وتعليمها هذه المهمة الصعبة-تنتابني الدهشة بحق! ويتعجب المرء من قدرة الإنسان على تخطي صعوبات كثيرة إذا كانت لديه غاية! أي غاية!

فكيف اكتسب هذه الإرادة وهذا الإصرار؟ وما دور الغاية هنا؟

الإرادة ليست صفة إنسانية فقط، بل هي عند الحيوانات أيضا، والتي قد تبذل جهودا كبيرة للحصول على شهواتها أو دفع الأضرار عنها، فالشهوة والغضب عند الحيوانات “يريدان” ما يحقق كمالهما.

كما أنها ليست صفة مكتسبة، بل ذاتية، كما يمكن تقويتها أو إضعافها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وتتميز الإرادة الإنسانية عن الحيوانية بالعقل الباحث عن الحقيقية، والموجه لسلوك الإنسان، والمميز بين ما هو نافع وضار، وبين ما هو صواب وخطأ، والمتجاوز للرغبات والشهوات الضيقة أو دفع الضرر الجسدي. فالعقل البشري إرادته فوق الإرادة الشهوية والغضبية وموجهة لهما.

لكن الانتكاس المذهل الذي نلاحظه في هذه القصة هو أن العقل هنا تحول لخادم للنزعات الحيوانية الشهوية، فلم يعد حاكما لها، بل سخّرت هي بعض قدراته لتحقيق رغباتها!

أما الإصرار فهو ملكة سلوكية يكتسبها الإنسان بالتكرار، وبعمل الأعمال الصغيرة فالكبيرة، والالتزام بها تحت أي ظرف، وكغيره من الملكات السلوكية يمكن اكتسابها حتى دون معرفة أو رؤية، وسواء كانت “الغاية” من الاكتساب نبيلة أم لا، بل بمجرد عمل السلوك وتكراره.

ولذلك فالسلوك في ذاته قد لا يكون له قيمة كبيرة، بينما يستمد قيمته الأساسية من “الغاية” التي يُعمل لأجلها.

وهو ما يلقي النظر على خطورة “غاياتنا” وأهميتها، إذ أن هذه الغايات إن لم تكن سليمة، ولم يجر اختيارها بشكل واعٍ وصحيح؛ فقد نفاجأ بانحرافات مذهلة في السلوك الإنساني.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن الغايات الإنسانية لا تتكون من تلقاء نفسها، بل تنطلق من “رؤية” الإنسان لنفسه وللعالم، فلو كان الإنسان يرى نفسه-مثلا-في مرتبة حيوانية فقط، ولا يرى من العالم إلا اللذات المادية؛ فستكون غاياته نيل تلك اللذات المادية وتحقيق السعادة الحيوانية وفقط.

فإن لم يهتم الإنسان بتكوين “الرؤية” فسيمتلك رؤية مشوهة وتنحرف غاياته وسلوكياته، مثل من يترك تكوين رؤيته لغيره كالمجتمع والبيئة المحيطة، أو الظروف، أو رغباته الشهوية والغضبية، وانحرافاته النفسية.

وتكوين الرؤى بشكل سليم يحتاج إلى أن يفكر الإنسان بشكل سليم ومنطقي، لا تحركه دوافع نفسية مريضة أو ملكات غير أخلاقية، وأن يمتلك طريقة ومنهجا سليما للتفكير، حيث أن تفكيرنا هو الذي يكون رؤانا ومن ثم غاياتنا.

والإنسان بطبعه يفكر بشكل منطقي سليم، لكن هذا التفكير المنطقي قد يتم تنميته أو تشويهه بعوامل كثيرة، كأن يعتني الإنسان به أو يهمله، وأن يسمح له بقيادته أو يجعله خادما لشهواته وغضبه.

وهناك عوامل خارجية أيضا كالتربية والتعليم، ولكن يبقى للإنسان اليد العليا في اختيار مدى تأثير هذه العوامل الخارجية عليه، فهناك من يرفض طريقة تربيته ويختار لنفسه طريقا آخر، صحيح يكون ذلك أصعب لكنه ممكن ببعض الجهد الزائد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجانب الآخر من القصة هو الخاص بأن هذا السلوك استمر حتى بعد العقوبة والسجن، وبرغم كل ما طال السجين من أضرار!

حيث تلفت تلك القصة-كغيرها الكثير-النظر إلى فشل كثير من نظم الثواب والعقاب الموجودة في التجمعات الإنسانية الحالية. فالنظام القضائي والأمني الذي أتى بالسجين وحاكمه وسجنه؛ لم يمنع جرمه وضرره بنفسه أو بغيره، ولم يؤد إلى إصلاحه وتهذيبه.

فربما نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة تلك القوانين والسياسات، بل والفلسفات الكامنة خلفهما، والتي تعتقد أن تغيير الإنسان وتهذيبه وإصلاح المجتمع يمكن أن يتم ببعض الأسوار، دون بناء أخلاقي وقيمي متكامل، تدعمه آليات تربوية وتعليمية ذات غاية نبيلة ورؤية واقعية واضحة، منطلقة من فلسفات تعرف ماهية الإنسان الحقيقية، وما ينبغي أن يكون لصلاحه وتهذيبه.

حتى ذلك الحين فستذهلنا تلك القصص من وقت لآخر!

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة