مقالات

وجودية الهوية الثقافية في مرآة عمارة الفقراء عند حسن فتحي

الفقراء هم ملح الأرض، نبض الإنسانية، روح الأوطان، فعندما يمرض الوطن هم أول من يشعرون بآلامه، يعانون بمعاناته، يظمأون بظمئه. نجد المعماري حسن فتحي (١٩٠٠- ١٩٨٩م) والذي يعد من أهم الذين اهتموا بالفقراء، وكرس مشروعه المعماري الفكري من أجلهم، قد سعى لتوفير مسكن يعيشون فيه حياتهم الإنسانية، وذلك من خلال تخصصه ألا وهو الهندسة المعمارية، وذلك بطرح فلسفة للبناء، فلسفة يمكن من خلالها تأسيس مساكن لهم من ناحية والمحافظة على الهوية المصرية المعمارية من ناحية أخرى.

لقد آمن المعماري حسن فتحي بأنه إذا تمكن الفقراء من إيجاد مساكن مناسبة لهم تتناسب مع مستواهم الاقتصادي، ستكون لهم قدرة فائقة على الإنتاج من ناحية والمحافظة على كرامتهم الإنسانية من ناحية أخرى. لقد وجد حسن فتحي أن مساكنهم لا تتناسب معهم على الإطلاق، لأنها مبنية بناء بدائيًا ولا تتوفر فيها البيئة الملائمة لحياة إنسان يحمل معالم الإنسانية الحقة على كاهله، فعزم على ابتكار تصميمات هندسية لمساكنهم لتتناسب معهم، وتتفق ومستواهم الاقتصادي من ناحية وتحافظ على الهوية المصرية من ناحية أخرى، فقد قام حسن فتحي بذلك ردًا على ما كان سائدًا في عصره من هيمنة للثقافة الغربية بكافة أشكالها على المجتمع المصري آنذاك.

عمارة الفقراء في مواجهة الحداثة

كما اعتقد حسن فتحي بأنه لا يمكن الوقوف أمام ذلك الزحف الاستعماري للثقافة الأوروبية على مصر إلا من خلال التمسك بالهوية الثقافية المصرية في حقل العمارة، فكانت العمارة عنده بمثابة السلاح الذي أخذ يقاوم به الاستعمار، وذلك من خلال إعادة إحياء عمارة المباني المصرية القديمة بابتكار، وذلك محاولة منه لرفض الخضوع لسيادة نظام العمارة الأوروبي الذي كان آنذاك قد بدأ في ترسيخ وجوده، وهو ما كان يسعى الاستعمار لترسيخه في مصر.

فبدلًا من أن تكون العمارة المصرية في كافة أقاليمها نسخة كربونية لنظام عمارة الغرب، عزم على وجود عمارة أخرى مصرية المنشأ لتحافظ على الهوية المصرية من ناحية، ولتقف أمام الزحف المعماري ذي الهوية الغربية من ناحية أخرى، وكانت محاربة حسن فتحي للاستعمار في حقل العمارة مثله مثل كثيرين من معاصريه الذين كانوا يحاربون الاستعمار كل بأدواته، فمنهم من أخذ يقاوم الاستعمار بالسلاح، ومنهم من أخذ يقاومه بالفكر، ومنهم من أخذ يقاومه بالمسرح، والأدب والأغاني الشعبية، كل بطريقته وأسلوبه ومنهجه.

حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء

لم يجد حسن فتحي من يساعده على بلورة مشروعه المعماري الإنساني الوطني سوى النوبيين، خاصة وأنه وجد في مساكنهم ما كان يرغب في تحقيقه، فأخذ يتعلم منهم فنون العمارة النوبية لكي يطورها وفقا لخبرته المعمارية من ناحية، وأهدافه الوطنية الثقافية من ناحية ثانية، والكرامة الإنسانية للفقراء من ناحية ثالثة، وفي الوقت نفسه لكي يوفر للفقراء مساكن تتناسب وقدراتهم المادية المحدودة، وتوفر مناخًا مناسبًا آدميًا يعيشون فيه، ويحقق لهم راحة نفسية ووجدانية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في أثناء سعي حسن فتحي في تحقيق مشروعه الثقافي التطبيقي عانى من صعوبات كثيرة، والتي كان من أهمها التجاهل التام لما دعى إليه، ورغم ذلك استمر في السعي للدعوة لمشروعه والسعي الجاد لتحقيقه، حتى انتشر مشروعه ليس في مصر ولا العالم العربي، بل ذاع وانتشر انتشارًا غير عادي في العالم الغربي، لدرجة أن كثيرًا من المنظمات الأوروبية وخاصة المنظمات الفرنسية والإيطالية أخذت تتبنى آراءه وأفكاره وتدعو إليها، ليس هذا فحسب بل أخذت تطبقها وترعاها مؤسسيًا.

اقرأ أيضاً: اليوم العالمي للقضاء على الفقر

الهوية الثقافية في مشروع حسن فتحي

حسن فتحي

يمكن أن تتجلى وجودية الهوية الثقافية في مشروع حسن فتحي في عدة محاور، سنتناول كل منها بشيء من التفصيل.

رفض التغريب الأوروبي

استشعر حسن فتحي ازدياد الهيمنة الثقافية الغربية على مصر، فلم يرفضها رفضًا قطعيًا، بل اهتم بما يتوافق والهوية الثقافية المصرية مع ضرورة اتفاقها والسياقات المصرية من ناحية، ومن ناحية أخرى آمن بضرورة الاهتمام بتنمية الثقافة المحلية حتى لا تهيمن الثقافة الغربية على الثقافة المصرية، وتصبح مصر مستعمرة أوروبية، وذلك خلال اهتمامه بالبناء المعماري على الطراز المصري الأصيل، ونظرًا للكثافة السكانية الموجودة في شمال مصر، والتي كانت قد أخذت كثيرًا من الطراز المعماري الغربي، وهو أمر يصعب تعديله أو تغييره، فوجه اهتمامه إلى جنوب مصر وخاصة بلاد النوبة، والتي وجد فيها ضالته، إذ وجد فيها بيئة مناسبة لتحقيق مشروعه، وذلك من خلال تطبيق الطراز النوبي في الأبنية بما يحقق مسكنًا إنسانيًا ملائمًا اقتصاديًا يتفق مع إمكانياتهم المادية.

ترسيخ النزعة الإنسانية

لم يكتف حسن فتحي بهذا فحسب، بل أفرد مكانة كبيرة للإنسان ليجعله يشارك بنفسه في تصميم مسكنه، وفقًا لاحتياجاته الخاصة ورغباته الذاتية، وشخصيته، هذا فضلًا عما يؤمن به من عادات وتقاليد وأعراف، بالإضافة إلى أوضاعه الأسرية ومعيشته، بل ما يحتاجه من أبنية ملحقة بمسكنه لاستثمارها في تنمية دخله، على خلاف ما يوجد في المساكن الحضرية، إذ إن هذه الأخيرة تبنى ثم تعرض للبيع، دون أن يتدخل ذلك الذي يسكنها بأدنى إسهام في بنائها، وفي هذا الوضع أحس حسن فتحي بوجود نوع من الاغتراب بين الإنسان ومسكنه، أما طريقة حسن فتحي في البناء تجعل هذا الاغتراب يتلاشى تمامًا. إذ يجعل المسكن ذا علاقة وثيقة بالذي يقطنه ليستشعر وهو بداخله بذاتيته ووجوده، وذلك لأنه شارك في تصميمه وبنائه، وبالتالي سيوجد فيه ما يحقق رغباته.

المحافظة على التقاليد والأعراف

كما وجد حسن فتحي أن العمارة الأوروبية لا تتوافق والعادات والتقاليد المصرية الأصلية، والتي تتمثل في تحقيق خصوصية للبيت، فاهتم بتحقيق ذلك أثناء تصميمه المعماري لها، وهو ما اقتبسه من أبنية بلاد النوبة.

القضاء على الاغتراب

كما تتحقق وجودية حسن فتحي في العمارة خلال قضائه على الاغتراب العمراني، ذلك الاغتراب الذي ينتج نتيجة لانفصال المواطن عن مسكنه الذي يقطن فيه، وعدم مشاركته بأي نوع من أنواع المشاركة في تصميم هذا المنزل، وهو ما يتحقق بكثرة في المجتمعات المعاصرة، وهو ما اهتم به، فعزم على القضاء على ذلك الاغتراب خلال مشاركة الفقير، وهذا من شأنه أن يقلل الفوارق بل ويقضي على ذلك النوع من الاغتراب، الذي عندما يتحقق ينتج شعورًا عند الفقراء بعدم الانتماء لهم وللمجتمع الذي يعيشون فيه.

مقالات ذات صلة:

غير المرئيين

القيمة الحضارية للثقافة المجتمعية

عقارب الجوع

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. غلاب عليو حمادة الأبنودي

مدرس اللاهوت والفلسفة في العصور الوسطى ، قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة سوهاج