إصداراتمقالات

ثنائية الجهل

ثنائية الجهل

– ليس من حقك ادعاء امتلاك الحق المطلق ..

– كلنا على حق ..

– لا يوجد ما يسمى بالحق المطلق..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما تلخص تلك العبارات تطور الصراع بين الأفكار والأفراد والمجتمعات والحضارات المختلفة، ذلك الصراع الذي نشأ نتيجة اختلاف الأفكار بين من يدعون معرفتهم للحقيقة لينتهي إلى إنكار وجود الحق فى ذاته، فهو الحل الأسهل والأسلم والأسرع لنفى الخلاف، وهكذا يمكن لكل منا أن يحتفظ بوجهة نظره وآراءه ونظرته فى فهمه لحقيقة قضية ما، التى يمكن أن تتعارض بالكلية مع وجهة نظر الآخر وآراءه ونظرته للقضية ثم تظل الوجهتان صحيحتين !! هكذا أصبح الحق نسبيًا، فإذا كان تعريف الحق هو ما طابق الواقع وأردت أن تنفى الحق المطلق فعليك أن تنفى الواقع، دعونا نسلم بأنه لا وجود لهذا الواقع، وإن وجد فلا سبيل لنا لمعرفته، وبالتالي فلا ثوابت ولا قيم ولا معتقدات ولا حتى أخلاقيات، لتعم السيولة الفكرية والنسبية كل شئ ولا يتبقى سوى رؤى وأفكار شخصية لا تحكمها قواعد ولا موزاين ولا تلزم أحدًا سوى أصحابها ..

هذا الإتجاه المنكر للواقع هو اتجاه ما أطلق عليهم بالسفسطائين ، وهو الإتجاه الذي انتشر في القرن الخامس قبل الميلاد على يد جورجياس وبورتاجوراس ، ثم عاد بقوة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد أمثال ديفيد هيوم وباركلي . يتحدث الدكتور أشرف حسن منصور عن فلسفة هيوم فى مقال عن تاريخ الفلسفة الحديثة ، فيقول ” وكذلك الحال بالنسبة للأفعال الإنسانية التي توصف بالفضيلة أو الرذيلة، أو الخير أو الشر، فهذه الأشياء ليست قيماً مطلقة وليس لها وجود واقعي مستقل عن انفعالات البشر، لكن يستخدمها الناس باعتبارها مبادئ أخلاقية بالنظر إلى ما يعود عليهم من نفع أو ضرر. وليست الفضيلة واحدة أو ثابتة، بل هي نسبية، لأن الفعل الفاضل في ظروف معينة يمكن أن ينقلب إلى رذيلة في ظروف أخرى، والحال كذلك مع الرذيلة التي يمكن أن تتحول إلى فضيلة في ظروف مختلفة. ومعنى هذا أنه ليست هناك قيم أخلاقية واحدة وثابتة، بل هي دائماً نسبية ومتغيرة، والظروف المحيطة هي التي تحدد ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة. والفضيلة والرذيلة لا يحددان السلوك قبل أن يقوم الإنسان بالفعل، بل هما نتيجة التأمل في توابع هذا الفعل بعد أن يحدث، ولذلك فهما لا يوجهان أي شئ “[1]

والمتأمل المتجرد لهذه المعاني يستطيع بسهولة ملاحظة التناقض فيها، فحتى من يدعي النسبية الكاملة وينكر وجود الثوابت والقيم المطلقة يحتاج في نفس الوقت إلى مرجعية معينة ثابتة ينطلق منها في خلق تصور لمفهوم القيم والأخلاق، حتى لو كانت تلك المرجعية هي مرجعية المنفعة المادية التي تحدد الحسن والقبح في الأفعال بناء على نتائجها وما عادت به من نفع أو ضرر على صاحبها كما هو الحال عند هيوم. وهو بالأمر غير المستغرب عند أصحاب الفلسفة المادية التجريبية التي تشكل المادة مفهومهم الأوحد للوجود. هذه المرجعية الثابتة والمطلقة الضرورية لإيجاد تصور عن القيم والأخلاق والتي تدحض في ذاتها فكرة النسبية هي نفس ما تناوله الدكتور المسيري حين يقول متسائلًا عن غاية الوجود البشرى فى إنشاء الحضارة الإنسانية فيقول ” بل ويحق لنا أن نتساءل عن إمكانية قيام حضارة إنسانية في إطار من النسبية المطلقة أو الشاملة، فالحضارة الإنسانية، حسب معظم التعريفات المقبولة، تعني ظهور الإنسان التدريجي وانفصاله عن الحالة أو الطبيعة المادية الحيوانية، فكيف يمكننا التعرف على هذه الحالة الإنسانية إن لم يكن لدينا مؤشرات متفق عليها؟ والحضارة الإنسانية –كما نعرف– هي نتاج جهد جماعي بذلته الإنسانية جمعاء، ولذا فهي تتطلب أن يعيش البشر سويًا، ولكن كيف يتأتى لنا أن نعيش سويًا دون أن يكون هناك قيم عامة نستند إليها حين نحكم على أنفسنا وعلى الآخرين، قيم يمكننا الاحتكام إليها إن اختلفنا وإن رأينا البشر يتصرفون مثل الذئاب أو الزواحف أو القرود، قيم تمكننا أن نسمي الإنسان إنسانا والقرد قردًا، على الرغم من عمومية وغموض مفهوم الإنسان والقرد؟ هل يمكن أن نميز بين ما هو إنساني وغير إنساني دون افتراض وجود طبيعة بشرية وإنسانية مشتركة؟ ” [2]

وهو هنا يطرح ضرورة وجود طبيعة ما ثابتة ومستمرة لدى الوعي البشري أو كما أسماها هو ” الضمير ” أو “الإله الخفى” تدفع الإنسان نحو الخير، وإن خالفها يشعر بالذنب وهي المرجعية المتجاوزة لعالم المادة ولا يمكن ردها إلى طبيعة حسية مادية . يقول ” إن أدرك الإنسان أن ثمة طبيعة بشرية تتسم بنوع من الثبات وأن ثمة جوهراً إنسانياً ما، يصبح من المحتم أن تتحول تلك الطبيعة إلى نقطة ارتكاز فلسفية ثابتة ينبع منها نسق أخلاقي ، بحيث أن كل ما يحقق هذه الطبيعة ويثريها يعد خيرًا، وكل ما يبتعد عنها فهو شر،أما الضرب الثاني من الإيمان هو عملية تفريغ لشحنة نفسية، وتوتر داخلي يبحث عن بؤرة، وهو ضرب من ضروب تحقيق الذات يصلح كميتافيزيقا بدون أعباء أخلاقية يتبناها الإنسان الاقتصادي والإنسان النفعي الذي لا يؤمن إلا بالمادة، ويجد صعوبة حقة في التسامي عليها وتجاوزها”.[3]

هذا القول هو ما يجب أن يدفع الإنسان إلى الإيمان بوجود المطلق وإلى محاولة البحث عن تلك القواعد العامة الثابتة والمطلقة الصحيحة التي يمكن اللجوء إليها في تفسير الحسن والقبح وفي التمييز بين الحق والوهم أو الضلال، تلك المرجعية التى لا بد أن تتجاوز عالم المادة المتغير إلى عالم المجرد الثابت والمطلق في ذاته وهي مرجعية العقل وما يصل إليه من بديهيات عقلية أساسية مشتركة بين جميع البشر. يقول د. أيمن المصرى ” ثم إن البديهيات العقلية تمنع القول بالنسبية، فقضية بديهية مثل (الكل أعظم من الجزء) لو اعتقد بها شخصان بشكل متخالف لأدى ذلك الى اجتماع النقيضين المحال، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لقضية (النقيضان لا يجتمعان). ولقد حكم النسبيون على أنفسهم بأنفسهم، حينما نفوا الإدراك المطلق والقواعد الكلية، فلا يحق لهم بعد ذلك إصدار حكم أو قاعدة عامة بنسبية جميع القضايا، إذ يبقى هذا أمر نسبى وخاص بهم، لا ينبغى فرضه على الآخرين”[4]

إن براهين إثبات المطلق كثيرة فبخلاف البديهيات العقلية يأتي الرد البسيط الذي يمكن أن يواجه به النسبيون في مقولتهم (أن كل علم نسبي) هل هي في ذاتها مطلقة أم نسبية؟ فلو كانت نسبية فلا ينبغى أن تفرضها على أحد وتجعلها مسلمة بما يعنى أن وجود المطلق وارد، ولو كانت مطلقة إذن فهذا إدعاء بوجود المطلق وهو ما يناقض الجملة والفكرة المطروحة نفسها.
بهذه البساطة في الإجابة يمكن تصور الجهل و سذاجة الطرح القائل بالنسبية  والذي ربما نشأ من عدة تصورات سطحية ساذجة، منها ما يعتمد على وجود الاختلاف الواقع بين البشر، فبدلًا من أن يبحث عن سبب الاختلاف فيما بينهم الذي أدى لعدم معرفتهم وإدراكهم للحقيقة المطلقة كما هي، يلجأ إلى الحل الأسهل في سحب قضية التغير والاختلاف على الحق نفسه، ليصبح السؤال: “إذا ما سلمنا بوجود الحق المطلق فلماذا نختلف؟ ” وكأن الاختلاف هو القاعدة والتوحد أو التوافق هو الاستثناء !!
والإجابة هي أن الحق في واقعه واحد ومطلق وثابت ولا مجال للنسبية فيه، أما النسبية فتأتى في مرحلة إدراكنا نحن لهذا الواقع وهنا تتعدد العوامل بين من لم يسع ويجتهد لمعرفة الحقيقة، أو من الجهل ومن لم تكتمل لديه أسباب المعرفة أو من سلك طريقاً منهجيًا خاطئًا أو عشوائيًا في معرفته، أو بين من سيطرت عليه موانعه وأهوائه ورغباته المادية ومصالحه الشخصية فحالت بينه وبين معرفة الحقيقة وأجبرته على رؤيتها بمنظوره هو الذي سوف يحقق له النفع والقيمة المادية التي يسعى نحوها.

وخلاصة ذلك في التفرقة بين ما هو مطلق وثابت وما هو نسبي ومتغير هو في القواعد والأحكام التي ترتكن إليها لإدراكه، فالإدراكات العقلية الكلية المجردة المتجاوزة للمتغيرات الزمانية والمكانية مثل مفاهيم وجود الإله وحقائق الأشياء والقيم الأخلاقية مثل العدالة فهي مطلقة، أما إدراكاتنا الحسية الخاضعة للحواس المادية فهي متغيرة وذلك لأن من طبيعة المادة الحركة وعدم الثبات، ومثال على ذلك فالإنسان يولد طفلاً ثم يحدث تغير في طوله وشكله وحجمه ليتحول إلى شاب ثم كهل، فلو اكتفينا بإدراكنا الحسي للإنسان للاحظنا فيه التغير وعدم الثبات، أما إدراكنا العقلي له سيقول إن حقيقة هذا الإنسان من كونه “حيوانًا ناطقًا” بتعريف الفلاسفة، لم تتغير بتغير المكان والزمان بل ستظل حقيقة واحدة وثابتة.
من أسباب إدعاء النسبية أيضًا ما واجهه العلماء الماديين التجريبيين من تغير نتائج التجارب العلمية التي كانوا يظنون فيها الثبات، فبعد استحداث طرق القياس والأدوات العلمية قد يكتشفون الجهل بنقاط معينه و خطأ نتيجة ما ظلوا يعتقدون بغيرها لسنوات، فمثلأ كان الأوربيون يعتقدون لسنوات بحقيقة دوران الشمس حول الأرض ثم اكتشف جاليلو خطأ تلك النظرية وأن الحقيقة هي عكسها، فهل كان يجب أن يعني ذلك أن الشمس في الواقع كانت تدور حول الأرض ثم تغير ذلك الواقع باكتشاف جاليلو له؟!!
وهل ادعاء أحد بأن قيمة عجلة الجاذبية هي 9.8 م/ث2 وادعاء آخر بأنها 9.806 م/ث2 سوف يغير ذلك من وجود قيمة حقيقة واحدة مطلقة لها؟! إنما هي حدود أدوات قياسنا المادية الضيقة وإنما هو غرور العلماء في إسباغ معرفتهم الشخصية الظنية على المعرفة اليقينية نفسها. فما كانت نتائجه ظنية نتيجة لاستقراءات أو تجارب غير مكتملة الشروط لا يجب إسقاطه على الحق في ذاته. حتى أن التغير المصاحب لطبيعة المادة هو في ذاته يخضع لقوانين ثابتة ومطلقة يمكن اكتشافها ومعرفتها ولا تتغير أو تتبدل، فالماء إن كانت تتغير حالته المادية الظاهرة من سائل إلى غاز فلن نرى ذلك يحدث مرة عند درجة حرارة معينة ومرة عند درجة أخرى بل إن قانون التبخر لم يصبح قانونًا إلا باكتساب مشروعية الثبات والإطلاق فيه.

ما مشكلتنا؟

مشكلتنا هي في الخلط الدائم و الجهل الذي يحدث وعدم القدرة على التمييز بين ما يجب أن يخضع للثبات والإطلاق وما يجب أن يخضع للنسبية، فيتم فرض الإطلاق على ما هو نسبي من آراء واعتقادات ظنية من نتائج الاستقراءات والعلوم وحتى الأفكار والنظريات الإنسانية وهو ما يؤدى إلى الجمود والتحجر وقد يدفع إلى التعصب والتطرف في الرأي. ومن جهة أخرى يتم تنسيب ما هو في واقعه مطلق مثل الحقائق القطعية والقضايا الكلية الثابتة وهو ما يؤدي إلى السيولة والفوضى والعبثية ونقض الأسس العلمية والثوابت والأخلاق، هو نموذج عن ثنائية الجهل التي عاشتها أوروبا في العصور المظلمة عندما سيطر الخطاب الديني الجامد للكنيسة وهيمن المنهج الإخبارى النصي على حدود المعرفة ذاتها فتولدت عنه ردة فعل عنيفة مع بداية عصر التنوير والاكتشافات العلمية الحديثة أدت إلى التمرد على الثوابت والمطلقات، أو سعت للتحرر من سطوة الدين فتصورت أن الإيمان بالنسبية هو السبيل إلى التعايش ونبذ التطرف والتعصب، وهو ما يشبه كثيرًا ردة الفعل التي يعانيها مجتمعنا العربي الآن من سيطرة الخطاب الديني المتحجر المفتقد لقواعد الحكمة والمنطق، إما  نتيجه عن الجهل أو عن لهاث خلف مصالح شخصية وسياسية تتمسح بعباءة الدين لاكتساب القدسية والمشروعية، وما تلا ذلك من ردة فعل نحو رفض الدين بالكلية والإتجاه إلى الإيمان بالمادية والإلحاد كمرجعية آمنة وأرض صلبة لا تخدع ولا تضل ويمكن اللجوء إليها والارتكان إلى صحتها، وهو ما يعيدنا ثانيةً إلى قضية أن حتى المؤمن بالنسبية أو العدمية والرافض للثوابت، دائمًا ما يسعى إلى مرجعية ثابتة يحتمى بها فلن يستطيع الإنسان مهما ادعى أن ينزع نفسه المجردة ذاتًا من قيد الثبات والإطلاق..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من هنا يمكن أن تنتفي شبهة أن لا الإيمان بالمطلق يعني التعصب والجمود، ولا أن الإيمان بالنسبية يعنى التحرر والانفتاح، فكلاهما؛ المتعصب عن غير علم والمؤمن بالنسبية بخلاف الواقع، يعاني من علة الجهل . فما بين عقول جامدة متحجرة على آرائها واعتقاداتها وأفكارها وتعميمها على الحقيقة والواقع، وما بين عقول تمردت على الحقائق ولفظتها وادعت السيولة فى كل المفاهيم والآراء والمواقف، نعيش في ثنائية ما بين إطلاق ما هو نسبي، وتنسيب ما هو مطلق .هي حالة من الخلط بين اليقين والظن، بين مطلق الحقيقة في واقعها وبين إدراكنا المتغير لها، بين الثوابت المتجاوزة للزمان وللمكان والاختلافات الجزئية والاعتبارية وبين ما يخضع للاعتبار وطبيعة العصر وحكم المكان.
إذا غاب المطلق فلا علم ولا أخلاق ولا ميزان وسيؤول كل شىء إلى العدم والفوضى والعبثية
وإذا فرض الإطلاق على ما تحكمه المتغيرات الزمانية والمكانية فأيضاً لا علم ولا ميزان وسيؤول كل شئ إلى القولبة والجمود والتحجر والتعصب. وفي الحالتين يسود الجهل.

[1] http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=132137
“تاريخ الفلسفة الحديثة ” د. أشرف حسن منصور
[2] http://www.elmessiri.com/articles_view.php?id=30
” الحداثة المنفصلة عن القيمة والاله الخفى” د. عبد الوهاب المسيرى
[3] المصدر السابق
[4] كناب ” أصول المعرفة والمنهج العقلى” د. أيمن المصرى – المركز الثقافى العربى ص 47

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة