إصداراتمقالات

ثقافة الكم

في حادثة لافتة للنظر، ظهرت مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي صور وتعليقات تنتقد ظهور إحدى الفنانات في أحد المحافل الفنية بملابس غريبة وقبيحة الشكل لدرجة لافتة، فما كان من تلك الفنانة إلا أن ردت على منتقديها بقولها (انتوا مش عارفين الفستان دا بكام؟!!) معلقة على غلوّ ثمن الفستان الذي يصل إلى عشرات الآلاف من الجنيهات. ربما أثارت تلك المقولة التساؤل لدى بعضهم، ما علاقة القيمة المادية بدرجة الجمال؟ وهل ينبغي بالضرورة لكل ما غلا ثمنه أن يلقى استحسانًا وقبولًا؟

في مجتمعاتنا وفيما يتعلق بمسألة الزواج أصبحنا نرى كيف تتسابق العائلات على تزويج بناتها لمن يملك أكثر، ولديه القدرة المادية الأعلى على شراء كل مستلزمات الزواج والكماليات منها قبل الضرورات، ونجد مظاهر المغالاة الشديدة في شراء العديد من الأشياء التي قد لا تشكل حاجة أساسية لأي من الزوجين وقد لا يضطران إلى استخدامها ولكنها تعد من قبيل الوجاهة الاجتماعية والتباهي أمام الآخرين أو التقيد بالعادات والتقاليد، الأمر الذي يصل في بعض الأحيان لفشل العديد من الزيجات بسبب الاختلاف على تلك المظاهر المادية.

حتى على مستوى التعاملات اليومية بين الناس صار هناك ما يشبه عرفًا سائدًا من توجيه التقدير والاحترام لكل إنسان يدل مظهره الخارجى على الثراء والترف ونرى آثارها من خلال لغة الخطاب والسلوك، في مقابل التقليل من الشأن وعدم الاكتراث والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى الازدراء والاحتقار لكل من تبدو عليه أمارات البساطة ورقة الحال.

أما على مستوى علاقاتنا الإنسانية فأصبح يحكمها عدد الخدمات التي يتم إسدائها وقيمة المنافع التي قد يتحصل عليها الشخص من خلال تلك العلاقة، وصارت مشاعر الحب بين الأهل والأصدقاء تقيم بمدى المقابل الذي يبذلونه لنا من أوقاتهم ومشاعرهم فنحسب لعطائنا كل حساب فلا نزيد على قدر ما نتلقاه منهم، وأصبحت متعتنا الوحيدة وحتى طريقتنا في معالجة الأحزان والهموم تتلخص في تدليل النفس بتناول الوجبات الفاخرة وفي الخروج إلى الأسواق لمزيد الشراء والاستهلاك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كل ذلك بدون أن نتوقف للحظة ونسأل أنفسنا هل نحن في حاجة حقيقية إلى تلك الأشياء؟ وهل تعوض القيمة المادية الجماليات والمشاعر المفتقدة؟ وهل نشعر بالسعادة عندما تتحول علاقاتنا إلى ماكينات صرف آلي جامدة؟ وهل يرضينا أن نتعرض لظلم أو إهانة بناء على مظهرنا الخارجي وقيمة ما نملكه في جيوبنا؟

إنّ هذه الحوادث والمظاهر وغيرها أصبحت تدل وبشدة على انتشار وتغلغل الثقافة المادية في فكرنا، تلك الثقافة التي تقيس حسابات الحسن والقبح بالمادة، كما تلخص معايير النجاح والاستقرار والأمان والسعادة في القدرة المادية والشرائية فتزيد وتنقص بزيادة أو نقصان الثمن والكلفة المدفوعة، وتعتبر أنّ قوانين الحرية والكرامة والاحترام أصبحت حكرًا على ذوي الأملاك والنفوذ وليست حقًا لغيرهم.

 

الفكر المادى

إن لفظ المادية له مدلولات مختلفة، فحين تعرّف المادة لغةً بالشيء المحسوس الذي يمكن إدراكه بالحواس الخمسة، تعرّف المادية في الفلسفة والفكر على أنها النظرة والاعتقاد بوجود الواقع المادي المحسوس فقط وإنكار الوجود المجرد وما وراء الطبيعة وأن لا شيء في الكون إلا وهو محكوم بإطار المادة والزمان والمكان وما عدا ذلك هو وهم، وقد تحولت المادية إلى مدرسة فكرية في القرنين الثامن والتاسع عشر عندما تبنى تلك الأفكار والمعتقدات العديد من علماء الغرب في بداية عصر التنوير الذي خرج متمردًا على قصور المفاهيم الدينية في الإجابة على التساؤلات العلمية ووضع تفسير للظواهر الطبيعية ووضع النصّ المقدّس في مقابل العقل. بالإضافة إلى العنف والتشدد والظروف السياسية والاجتماعية المستبدة التي صرفت العلماء والنخب عن التفكير العقلاني المتحرر وألجأته إلى كنف المادة والعلم التجريبي الذي وجد فيه الإجابة على تساؤلاته والقدرة على تطوير وتغيير حياته للأفضل ماديًا. فكانت هذه الفلسفة المادية هي التي تطورت وظهرت فيما بعد آثارها على كل جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في الغرب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنّ أساس النقد الموجه إلى تلك الفلسفة المادية يكمن في قضية الاختزال، بدءًا من اختزال الواقع إلى الجانب المادي منه وإنكار وجود الواقع المجرد، مرورًا باختزال حدود المعرفة وأدواتها إلى حدود الحس والتجربة العلمية، وانتهاءً باختزال كل القيم المعنوية والمجردة والأخلاقية للأشياء والاتجاه إلى تقييمها من خلفية مادية بحتة، فالمصداقية والأمانة مطلوبان لكسب الثقة وانجاز العمل الذي سيدّر دخلًا أعلى، والسعادة تتمثل في تحقيق أقصى درجات الاكتفاء والرفاه المادى وتوفير سبل الراحة. وبشكل عام انتشر الفكر النفعي البراجماتي الذي يحصر قيمة كل شيء في مدى نفعه والمصلحة المادية المترتبة عليه.

كيف أصبحنا ماديين؟

نحن في مجتمعاتنا العربية لم ننشأ في رحم الفلسفات المادية الغربية ولم نتعرض لنفس ظروفها التاريخية والسياسية، بل إننا نملك على مستوى المفكرين والفلاسفة مدرسة إلهية بإمكانها إجابة كل التساؤلات وتقديم تفسيرات عقلية ومنطقية لأسئلة المعرفة والوجود، وفي أصل هويتنا وعقيدتنا نؤمن بوجود ما وراء الطبيعة وبالجوانب الروحية والإيمانية، ولكننا للأسف تركنا أنفسنا للوقوع فريسة تحت تأثير الفلسفات الغربية الحسية عندما سمحنا لهم بغزو عقولنا وأفكارنا واستعمارنا فكريًا قبل أن يكون سياسيًا أو عسكريًا، ولم نتحصن بالدروع العقلية الواقية عندما هجرنا العلم والمعرفة وافتقدنا للعلماء والمفكرين القادرين على مواجهة هذا السيل والطوفان من الأفكار الغربية الوافدة التي تغلغلت لصميم وتفاصيل حياتنا مما أدى إلى حدوث خلل رهيب بين الفكر والسلوك، فأصبحنا إلهيي العقيدة ماديي السلوك.

ولأنّ هذا الانفكاك بين الفكر والعمل هو حالة غير طبيعية وسيتسبب بصراع لا ينسجم معه حال الإنسان فكان لا بدّ لأحدهما أن يتغلب على الآخر ليحدث التوافق، فتحولت المادية السلوكية لمادية فكرية أثرت فيها الأخلاق والعمل على التفكير وسمحت لهذا الإنسان العربى أن يعيد صياغة مفاهيمه ومعتقداته، فتم تعطيل العقل المجرد من ساحة المعرفة والفكر والسلوك لينتهي ذلك بعدم البحث وراء القيم الحقيقية للأشياء والاكتفاء بالمقياس الحسي السطحي نظرًا لوضوح وسهوله إدراكه كوسيلة لتحديد تلك القيمة.

إنّ إدراك القيم المعنوية والمجردة مثل الحسن والجمال والحب والسعادة والعدالة والكرامة هو عمل عقلي بالأساس، واختزال تلك المفاهيم من خلال مقاييس العدد والكم إنما يعبر بوضوح عن التدني في درجة الوعى والعلم، وهو بذلك -على عكس الشائع- ليس معبرًا عن درجة الرقى في المجتمع، بل إنه دليل على مدى انتشار السطحية والجهل، تلك الثقافة السطحية الاختزالية المعتمدة على الشكل الخالي من أي مضمون، هي التي أدت إلى انتشار ثقافة التوك شو  والحكم من خلال المظهر،  والذوق الخالي من أي لمحة جمالية حقيقية، وهي في مجملها لن تؤدى إلى سعادة وكمال الإنسان والمجتمع وإنما هي انتقاص لقدره وهضم لحقوقه، ولن تؤول بمصيره إلا إلى الألم والشقاء، هذا إن لم يستعِد عقلنا العربي هويته وثقافته ويسعى إلى إحياء قيمة العقل من جديد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة