مقالات

الاستجلاب

يتطلع الإنسان إلى الجديد دائمًا وإلى اقتناء الأشياء والاحتفاظ بها، التي تجذب انتباهه وتسيطر على تفكيره حتى وإن لم يكن في حاجة ماسّة لها.

إن من آفات البشر ومثالبهم إهدار المُقدّرات في غير محلّها، وتكديس ما تهفو إليه أنفسهم من أجل الشعور بالملكيّة أو إكمال النقص الذي يعتريهم، حتى وإن لم يستعملوها أو ينتفعوا بها.

من أوائل الذين قاموا بالاستجلاب قبل الإسلام “عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي”، وقد كانت كُنيته “أبو الأصنام”، إذ ذهب إلى بلاد الشام فوجدهم يعبدون الأصنام، وكان هذا الأمر جديدًا على العرب، فسألهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ فقالوا له: هذه أصنام نعبدها، نستمطرها فتمطرنا (أي نطلب منها إنزال المطر فينزل)، ونستنصرها فتنصرنا (أي نطلب منها النصرة في الحروب والقتال فتنصرنا على أعدائنا)، فأعجبه هذا الأمر وقال لهم: أفلا تعطوني صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا اسمه (هُبَلْ)، فجَلَبَه معه ووضعه في الكعبة وأمر الناس بعبادته فاستحسنه العرب ثم صنعتْ كل قبيلة صنمًا، ثم كل بيت، ثم كل شخص، ومن هنا اتخذوا الأصنام زُلْفى بينهم وبين الله.

إن الإنسان عليه أن يفكّر جيدًا في الأشياء التي يجلبها إذا كانت نافعة أو ضارة، فربما جلبَ شيئًا كان وبالًا عليه في دنياه وآخرته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والاستجلاب يكون كذلك باستمطار خالص الدعوات لإصلاح ابن أو زوجة أو شفاء مريض أو تيسير أحوال والسعة في الرزق والبيت، وهذه أمور مطلوبة، أي ارتباط المخلوق بالخالق الذي في السماء لتغيير حاله إلى أحسن حال.

في واقعنا المعاصر نرى بكل وضوح وجلاء على وسائل التواصل المختلفة طَلب الإعجابات أو استجلابها والتعليق أو إعادة النشر مرة أخرى، رغم أن هذا يُعد من الخصوصية، لكن لا يكون إلا بين الأصدقاء المُقرّبين أو الأصدقاء الوصوليين.

هناك نوع ذكي من البشر يحرص على ما ينفعه فيتقرّب إلى الله بفعل الخيرات، وينأى بنفسه عن فعل المنكرات والمنهيات، فنجده يسارع إلى كل ما يفيده ويعينه على مُنغّصات الحياة ومُكدّراتها.

وعلى غِرار ذلك توجد بعض الدول التي تعلمت واستفادت من دروس الماضي وأمسكت بزمام التقدم، فاستجلبت التكنولوجيا وطبقتها وطورتها لتُحدث طفرة حديثة خاصة بها، من هذه الدول الصين، إنّ العِلم الديني أو الدنيوي لا يمنح عطاياه وروعته إلا لمن أخذه بروح الشغف، واستعمال هذا العلم في التعليم والتطبيق للبناء وتعمير الكون من زراعة وتجارة وصناعة وطب وتعليم، إلخ.

من الآفات القاتلة للإنسان استجلاب الماضي بكل ما فيه من تجارب سيئة وأحداث مؤلمة والعيش فيه، وترك هذه المحطات تسيطر على كيانه وتفكيره فتقيّده مكانه فلا يتقدم إلى الأمام، وتُثبطه فلا ينظر إلى المستقبل، وتفتر عزيمته فلا يسارع في رسم مستقبله أو القيام بواجباته، فيقتل نفسه بنفسه ببطء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومن الناس مَن يستجلب المشكلات والعراقيل بلسانه فيتكلم كثيرًا، فيصنع من نفسه فيلسوفًا يعلم خبايا النفوس، ويفهم في كل الفنون والأجناس، أو يفتح قضايا مُغلقة طال عليها الأمد، فلسان الفتى نِصْف ونصْف فؤاده، وكما يقول القائل:

فلا تكثرنَّ القولَ في غير وقته.. وأدمن على الصمت المزيّن للعقل

يَمُوتُ الفَتَى في عَثْرَةٍ بلِسانه.. وَلَيْسَ يَمُوتُ المرءُ من عَثْرَة الرِّجْلِ

ولا تكُ مبثاثًا لقولكَ مُفشيًا.. فتستجلب البغضاءَ من زلة النعل

ويوجد صنف من الناس يستدعي إليه السعادة يطلبها بجهده، وبسط النفس مهما عظمت المشاكل وتكالبت الهموم والأمراض، هذا الصنف لا يعبأ بالأخبار وما فيها من مآسي، ولا يتحرك لمصيبة ألمّت بشخص، إنّ حمل الهم والتفكير في كل شيء وشغل النفس بكل ما يدور في العالَم قد يؤدي به إلى الجنون لا محالة، ولهذا ينبغي أن يحرص الإنسان على ما ينفعه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

العبودية الحديثة

خطورة وسائل التواصل على الأفراد

علاقة الماضي بالحاضر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة