مقالات

تفاهة الشعوب

يحكى أن الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط اعتاد أن يقف على حجر كبير في زاوية السوق، لكي يلقي الخطب في الناس بشأن مواضيع مهمة في الحياة والفلسفة ليعلمهم ويصلح من سلوكهم وأفكارهم، وكان الناس يمرون ويستمعون للحظات ثم يغادرون فلم يشعر أنهم يهتمون بما يقول، لذلك قرر أن يجرب طريقة أخرى، فأعلن للجمهور أنه سيحكي لهم قصة مسلية، وعندما اقترب بعض الناس لسماع القصة بدأ يحكي فقال: “كان هناك تاجر لديه كثير من البضائع، ولأن قريته صغيرة قرر الذهاب إلى المدينة لبيعها، فحملها على كتفه وغادر قبل الفجر، كان الطريق الوحيد إلى المدينة يحتم عليه أن يتسلق جبلًا عاليًا، وبينما كان يسير وجد رجلًا آخر على حمار متجهًا إلى المدينة نفسها، فسار التاجر بجوار الرجل وأصبحا صديقين، ثم طلب منه أن يؤجر حماره ليحمل بضاعته حتى يصل بها إلى المدينة الأخرى، وافق الرجل على ذلك مقابل مبلغ معين من المال”.

عند هذه النقطة من القصة وجد سقراط أن جمهورًا أكبر قد تجمع حوله للاستماع باهتمام، لدرجة أن معظمهم نسي ما جاء من أجله إلى السوق، حتى أن الأشخاص الذين اعتادوا القدوم والمغادرة في غضون بضع دقائق، نسوا أيضًا أعمالهم وظلوا في أماكنهم وقد شدتهم الحكاية.

وتابع سقراط قصته: “لقد صار عليهما أن يتسلقا الجبل شديد الانحدار للوصول إلى وجهتهما، فوضع التاجر بضاعته على الحمار وبدأ رحلته في الصباح، كان من السهل المشي في الصباح، لكن بمرور الوقت وحلول التعب بهما أصبح من الصعب عليهما تسلق الجبل، وعندما أشرقت الشمس فوق رأسيهما قررا أخذ قسط من الراحة”.

لاحظ سقراط الآن أن مزيدًا من الناس قد تجمعوا حوله في دائرة كبيرة وقد جذبتهم القصة، فأكمل قائلًا: “كان الوقت ظهرًا وكانا متعبين، فقررا أخذ قسط من الراحة، لكن لم يجدا أشجارًا أو ظلًا ليحتميا به من حر الشمس سوى ظل الحمار الذي يحمل البضاعة، ولم يكن ظل ذلك الحمار سوى مساحة تكفي رجلًا واحدًا، فأخبر صاحب الحمار التاجر أن ظل الحمار له لأنه صاحب الحمار، لكن التاجر احتج قائلًا إنه استأجر الحمار فالظل من حقه هو.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فقال صاحب الحمار: “لكني أجّرت لك الحمار فقط وليس الحمار والظل”، فقال له: “لا يا خفيف الظل، إنما الظل هو ظل الحمار وأنا استأجرت الحمار فيكون الظل لي”، فاشتد بينهما الجدال من أجل ظل الحمار”.

عندئذ تضاعف تجمع الناس حول سقراط، لكنه توقف عن الحكي فجأة ونزل من على الحجر الذي كان واقفًا عليه وترك الناس وانصرف، فتبعه الناس متعجبين وطلبوا منه أن يكمل القصة، وتظاهر هو بعدم الانتباه لهم واستمر في المشي مبتعدًا، لكنهم لاحقوه وهم يتصايحون غاضبين لا بد من إكمال القصة حتى نهايتها، حتى أن بعضهم راح يتوسل إليه: “نريد أن نعرف نهاية الحكاية!”، فتوقف سقراط عن المشي والتفت إليهم وقال بمرارة: “لطالما تحدثت إليكم أيها الناس عن أشياء مهمة وخطيرة مثل الحياة والعدل والحق والجمال فلم تعيروني أي اهتمام، وعندما بدأت في سرد قصة تافهة ومختلقة عن حمار وظلّه، أصبحتم متشوقين جدًا للاستماع، أنتم تهتمون بالأشياء التافهة وتتجاهلون الأشياء المهمة في الحياة”.

انتهت قصة سقراط بما أفادته من جهل الناس وتفاهتهم، والحقيقة أنه عندما نضرب مثالًا بقصة من زمن سقراط الذي ولد عام 470 قبل الميلاد فهذا يعني أن التفاهة قديمة قدم التاريخ.

اقرأ عن: سقراط وتهمة إهانة الآلهة

قصة غياث بن إبراهيم

في التاريخ العربي كان غياث بن إبراهيم كذّابًا وضّاعًا للحديث ذا وجاهة ولسان، مدعيًا العلم، ويزعم أنه يحفظ الأحاديث ويرويها، فكان الناس يجتمعون حوله فيحدثهم بالأعاجيب وهم لجهلهم يصدقون ما يقوله كله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رآه رجل ذات يوم يأكل الخبز على قارعة الطريق، فقال له: “ألا تستحي من الناس يا غياث؟” فقال باستهزاء: “وأين هم الناس؟!”، قال: “هؤلاء الذين اجتمعوا لك”. قال: “هؤلاء ليسوا ناسًا يا أخي، هؤلاء بقر! وإذا أردت أن أثبت لك فتعال معي”، ثم ذهبا، فجلس غياث في مجلسه وبدأ يحدث الناس عن الجنة ووصفها، وهم يستمعون منصتين، فلما رأى تفاعلهم معه، اخترع حديثًا من عقله وقال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من استطاع منكم أن يلمس أرنبة أنفه بلسانه دخل الجنة”، فما بقي منهم رجل إلا وأخرج لسانه ليلمس به أنفه، فالتفت غياث إلى صاحبه وقال له: “ألم أقل لك إنهم بقر؟!”.

لقد بالغ غياث هذا في وصف تفاهة الناس إلى حد نعتهم بالبقر لكن الفكرة عمومًا حقيقية، ودعنا نتساءل ماذا إذا تصادف ظهور العالِم مجدي يعقوب والمطرب النجم التافه فلان في مكان عام؟! فعلى من تظن سيتجمهر الناس لالتقاط الصور؟

العقاد أم شكوكو؟

202005010925152515 - تفاهة الشعوب

ذات مرة سأل صحفي الكاتب المصري “ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ”: “من منكما أكثر شهرة، أنت أم الفنان محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ؟”، فردّ عليه العقاد باﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: “ومن ﺷﻜﻮﻛﻮ هذا؟!”، ورد شكوكو على ذلك قائلا: “قل للعقاد ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف أنا على الرﺻﻴﻒ المقابل، ﻭﻧرى على من ستتجمع اﻟﻨﺎﺱ!”، ورد العقاد على هذا الكلام قائلًا: “قولوا له يقف على رصيف في ميدان التحرير وعلى الرصيف الآخر راقصة وليرى على من سيتجمع الناس!”.

الحقيقة أن كلمة العقاد تلك قد وصفت الواقع بدقة، فالناس وذائقة الناس لا يمكن أبدًا أن تكون مقياسًا للقيمة، لأن ذوق الناس ببساطة وبصفة عامة ذوق فاسد. لكن هل لأن الناس أصيبوا بالتفاهة فيجب إهمال رأيهم تمامًا أم يجب دراستهم ومعرفة كيف تمكنت التفاهة منهم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعلى ذكر عباس محمود العقاد: فللأديب الكبير إجابة عن هذا السؤال، إذ يقول: “ليس هناك كتاب أقرأه ولا أستفيد منه شيئًا جديدًا، فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته أني تعلمت شيئا جديدًا هو ما التفاهة؟ وكيف يكتب الكتاب التافهون؟ وفيم يفكرون؟”.

اقرأ أيضاً: نظام التفاهة

كيف تقتل الشعوب قضاياها بالهراء والتفاهة؟

هل رأيتم ما حدث في الشارع العربي من ردة فعل على أحداث غزة؟! وهل تراها ملائمة ومناسبة في الحجم والقوة على هذه المجازر والمعاناة كلها؟! لقد ظل الناس على اهتمامهم بالتفاهات رغم ما يحدث حولهم من كوارث بالجوار، صحيح أنه قد أطلت علامات غضب من هنا وهناك ونداءات بمقاطعة السلع الغربية، لكنها جاءت ضعيفة مقارنة بحجم الشارع العربي، وقد انهمكت الشعوب في معظمها بمشاهدة المسلسلات والمباريات ونشر التفاهات على مواقع التواصل بالتزامن مع تلك المآسي كلها، علمًا بأن ما يجري في غزة ليس فقط كارثة إنسانية لأشقاء وإخوة في الدين، بل أيضًا أحداث مصيرية للأمة العربية والإسلامية كلها، كأن الناس قد باتوا مغيبين ومخدرين لا يدركون حتى الخطر المحدق بمصائرهم، فأنت أمام مزيج من الجهل والتبلد وفقدان الشعور، وأول علامات ذلك أن يعيش كل فرد في أنانيته منعزلًا عن مجمل هموم الأمة ومنعزلًا عن التاريخ والحاضر والمستقبل.

مع أني وبكل تأكيد لست ماركسيًا فهذا لن يمنعني من الاستدلال في هذه المناسبة بقول كارل ماركس: “إذا أردت أن تكون تافهًا فما عليك إلا أن تدير ظهرك لهموم الآخرين”، هو قول حق، فمن أهم علامات التفاهة أن ترى الظلم وتسكت ولا تهتم، ويتعمق معنى التفاهة أكثر عند تأييد الظلم نفسه، فهنا يصبح الإنسان ليس فقط فاقدًا للوعي والقيمة بل وللإنسانية نفسها والدين والأخلاق، هذا الأمر يحدث غالبًا نتيجة سوء التربية وسوء التنشئة، وحتى في نطاق الأسرة نفسها ستجد أن أفراد الأسرة لم يعد يشعر كل منهم بهموم الآخر في أسرته، وهذا تجسيد أوضح لمعنى التفاهة.

لماذا تغزو التفاهة حياتنا؟

الاستبداد 7 - تفاهة الشعوب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن لماذا فقد الناس الحكمة وصاروا تافهين؟! أغلب الظن أن هذا حدث بسبب فقدانهم الرغبة في القراءة وفي المعرفة بالإضافة لابتعادهم عن قيم الدين.

يقول فريدريك نيتشه: “الحكمة هي ظل المعرفة والمعرفة هي ظل العلم والعلم هو الحقيقة والمنقذ، في حين أن التفاهة هي ظل الجهل والجهل هو ظل التخلف والتخلف هو عين الفقر والبؤس والشر والنفاق”.

لقد تغلغلت التفاهة في كل شيء، الفن والعمل والصحافة والإعلام والعلم والدين والكتب فصار التافه الرخيص صحفيًا وإعلاميًا مرموقًا، وصار الجاهل الأمي منتجًا سنيمائيًا يغرق المجتمع بالأفلام الهابطة والفكر التافه، وصارت العجوز الشمطاء ببعض الماكياج وعمليات التجميل صبية تمثل أدوار العشق، والمتفرجون يرحبون لأنهم أشد تفاهة من الذين أبدعوا هذا الغثاء، والإعلام يكذب لأنه يستهتر بعقول الناس، والناس تصدق لأنها صارت تافهة وتحب الكذب والتفاهة وتميل إليهما، ولسان حال الإعلام هو: “أنا أستعميك وأنت تحب العمى وتدمنه، ويا بخت سعيد بسعيدة”.

اقرأ أيضاً: أن تصدق أنك أقل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة