مقالات

الذكاء الاصطناعي (حصاد 2023 وتحديات المستقبل) .. الجزء الرابع

رابعًا: الذكاء الاصطناعي: إلى أين؟

بعيدًا عن الحوكمة والتنفيذ والجوانب الأخلاقية المُلحة، يهدف قانون الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي داخل الاتحاد الأوروبي، ويتضمن أحكامًا لتعزيز سوق واحدة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يتماشى مع خطة الاتحاد الأوروبي المنسقة بشأن الذكاء الاصطناعي لتسريع الاستثمار في أنحاء أوروبا جميعها. فماذا إذًا عن باقي القوى الدولية؟ وإلى أين يتجه الذكاء الاصطناعي بهذا الزخم غير المسبوق كله؟

الحق أنه نظرًا لضخامة عاصفة تطورات الذكاء الاصطناعي خلال شهور السنة الماضية، فمن المرجح أن نشهد مزيدًا من التغييرات الإضافية في العام المقبل وما بعده. وعلى وجه الخصوص، من المتوقع أن نرى تغييرات في المجالات الأربعة التالية:

1. الجمع بين السمات الإيجابية لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية

كان «تشات جي بي تي» في البداية محض برنامج دردشة يمكنه إنشاء نص. الآن، يمكنه إنشاء النصوص والصور والأصوات. كما يستطيع برنامج الدردشة الآلي «بارد» (الخاص بشركة جوجل) الآن التفاعل مع خدمة البريد الإلكتروني «جي ميل» (Gmail)، وخدمة «مستندات جوجل» (Docs)، وخدمة التخزين السحابي «درايف» (Drive)، وإكمال المهام عبر هذه الخدمات. وبالجمع بين السمات الإيجابية للنماذج التوليدية في الخدمات الحالية، ستحاول الشركات الحفاظ على حصتها في السوق، وجعل خدمات الذكاء الاصطناعي أكثر سهولة، وأسرع في الوصول إليها والاستفادة منها.

لا شك أن إحدى الإنجازات التي حققتها نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية– القدرة على الاستفادة من أساليب التعلم المختلفة، بما في ذلك التعلم غير الخاضع للإشراف أو شبه الخاضع للإشراف لأغراض التدريب. وقد منح هذا المؤسسات القدرة على الاستفادة من كمية كبيرة من البيانات لإنشاء نماذج أساسية بسهولة وسرعة أكبر. ويؤدي الجمع بين السمات الإيجابية لهذه النماذج إلى القدرة على إنشاء نماذج أكثر قوة، إذ يُدرَّب نموذجان أو أكثر معًا بحيث ينتج المولد محتوى أفضل ويتحسن جهاز التمييز في اكتشاف المحتوى الذي أُنشِئ، وبتكرار هذا الإجراء، يزداد التحسن حتى لا يمكن تمييز المحتوى الذي أُنشِئ عن المحتوى الموجود.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

2. جودة أعلى وأجيال أكثر واقعية

ثمة متطلبات ثلاثة رئيسة لنموذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الناجح:

  • الجودة: خاصة بالنسبة إلى التطبيقات التي تتفاعل مباشرة مع المستخدمين، إذ يُعد الحصول على مخرجات إنشاء عالية الجودة أمرًا أساسيًا. على سبيل المثال، في توليد الكلام، لا بد أن تكون الجودة مُحققة بُغية الفهم الأمثل، وبالمثل، في توليد الصور، يجب أن تكون المخرجات المطلوبة غير قابلة للتمييز بصريًا عن الصور الطبيعية.
  • التنوع: ذلك أن النموذج التوليدي الجيد يلتقط أنماط الأقلية (Minority Modes) في توزيع البيانات دون التضحية بجودة التوليد، وهذا يساعد على تقليل التحيزات غير المرغوب فيها في النماذج المستفادة.
  • السرعة: إذ تتطلب عديد من التطبيقات التفاعلية إنشاءًا سريعًا، مثل تحرير الصور في الوقت الفعلي، للسماح باستخدامها في سير عمل إنشاء المحتوى.

على الصعيد الخدمي، واجه الذكاء الاصطناعي في وقت سابق من سنة 2023 صعوبةً في تصنيع الأيدي والأطراف البشرية. وقد حسنت مولدات الذكاء الاصطناعي فيما بعد هذه المهام تحسنًا ملحوظًا، مع وعود بمزيد من التحسينات والإضافات. وفي الوقت ذاته، ناقشت البحوث ذات الصلة مدى تحيز مولدات الذكاء الاصطناعي، لذا أنشأ بعض المطورين نماذج تُراعي التنوع والشمولية، ومن المرجح أن تستمر الشركات في تقديم وتطوير الخدمات التي تعكس تنوع قواعد عملائها. من المتوقع أيضًا أن يساعد الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنشاء عوالم ونماذج ثلاثية الأبعاد للمحاكاة وتطوير السيارات، كما تُستخدَم البيانات الاصطناعية لتدريب المركبات ذاتية القيادة، إذ من المؤكد أن القدرة على اختبار قدرات مركبة ذاتية القيادة في عالم واقعي ثلاثي الأبعاد تعمل على تحسين السلامة والكفاءة والمرونة مع تقليل المخاطر والنفقات العامة.

كذلك سيستفيد مجال العلوم الطبيعية كثيرًا من الذكاء الاصطناعي التوليدي المُطور في صناعة الرعاية الصحية، إذ يمكن للنماذج التوليدية أن تساعد في البحوث الطبية بتطوير تسلسلات بروتينية جديدة للمساعدة في اكتشاف الأدوية، كما يمكن للممارسين أيضًا الاستفادة من أتمتة المهام مثل الكتابة والترميز الطبي والتصوير الطبي والتحليل الجيني.

أضف إلى ما سبق الاستفادة في مجال دراسات الطقس، إذ يمكن استخدام النماذج التوليدية لإنشاء عمليات محاكاة للكوكب والمساعدة في التنبؤ الدقيق بالطقس والتنبؤ بالكوارث الطبيعية. كما يمكن أن تساعد هذه التطبيقات في خلق بيئات أكثر أمانًا لعامة السكان، وتسمح للعلماء بالتنبؤ بالكوارث الطبيعية والاستعداد لها استعدادًا أفضل.

أما صناعة الترفيه، من ألعاب الفيديو إلى الأفلام والرسوم المتحركة وبناء العالم والواقع الافتراضي، فهذه قادرة على الاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية للمساعدة في تبسيط عملية إنشاء المحتوى الخاص بها، وتعزيز مستوى الابتكار والإبداع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

3. تزايد الدعوات للشفافية ومعايير الإعلام

تعرضت منصات إخبارية مختلفة لانتقادات شديدة سنة 2023 بسبب إنتاجها محتوى أُنشِئ بالذكاء الاصطناعي دون الإعلان عن ذلك بشفافية، إذ كثرت الصور التي أنشأها الذكاء الاصطناعي لزعماء العالم، وللأحداث والمواقف الجديرة بالنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مع احتمال كبير للتضليل والخداع. لذا من المتوقع أن تتطور معايير صناعة الإعلام، التي تشير بشفافية وباستمرار إلى مواضع استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء المحتوى أو تعزيزه لتحسين ثقة الجمهور.

4. توسيع قدرة الذكاء الاصطناعي السيادية

في بدايات الثورة الرقمية، كان كثرة من الناس والمراقبين راضين بمحض استكشاف إمكانيات الذكاء الاصطناعي هزليًا. ومع ذلك، مع بدء أدوات الذكاء الاصطناعي في إطلاق العنان للتطورات السريعة في قطاعات مجتمعنا جميعها، فإن مسألة السيطرة الدقيقة على من يحكم هذه التقنيات الأساسية أصبحت ذات أهمية متزايدة. وفي العام الحالي (2024)، من المرجح أن نرى قادة يركزون على المستقبل يحفزون تطوير قدراتهم السيادية بزيادة تمويل البحث والتطوير وبرامج التدريب وغيرها من الاستثمارات. بالنسبة إلى بقيتنا، سواء كنت تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي للمتعة أو العمل أو الدراسة، فإن فهم نقاط القوة والقيود في التكنولوجيا أمر ضروري لاستخدامها بطرق مسؤولة ومحترمة ومثمرة. وبالمثل، فإن فهم كيفية استخدام الآخرين –من الحكومات إلى الأطباء– للذكاء الاصطناعي بطرق تؤثر عليك، لا يقل أهمية.

خامسًا: تحديات تقنية

ما أهم التحديات التقنية للذكاء الاصطناعي التوليدي في هذا العام وما بعده؟

بوصفها تقنية متطورة، لا تزال النماذج التوليدية في مراحلها الأولى، مما يمنحها مساحة للنمو في المجالات التالية:

حجم البنية التحتية للحوسبة

يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية أن تتباهى بمليارات من البارامترات، مما يستلزم خطوط بيانات سريعة وفعالة للتدريب. ويُعد الاستثمار الرأسمالي الكبير والخبرة الفنية والبنية التحتية الحاسوبية واسعة النطاق ضرورية لصيانة النماذج التوليدية وتطويرها. على سبيل المثال، قد تتطلب بعض النماذج ملايين أو مليارات الصور لتدريبها، كما أن ثمة حاجة إلى قوة حسابية هائلة لتدريب مجموعات البيانات الضخمة، ويجب أن يكون ممارسو الذكاء الاصطناعي قادرين على شراء مئات من وحدات معالجة الرسومات والاستفادة منها لتدريب نماذجهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سرعة أخذ العينات

نظرًا لحجم النماذج التوليدية، قد يكون هناك زمن استجابة للنموذج –يزيد أو ينقص– لكي ينشِئ المطلوب. ومن الضروري أن تُجرى المحادثات على الفور وبدقة، خاصة بالنسبة إلى حالات الاستخدام التفاعلية مثل برامج الدردشة الآلية أو المساعدين الصوتيين ذوي الذكاء الاصطناعي أو تطبيقات خدمة العملاء. ومع تزايد شعبية النماذج التوليدية بسبب العينات عالية الجودة التي يمكنها إنشاءها، أصبحت سرعات أخذ العينات البطيئة واضحة بتزايد، مما يستلزم جهودًا مُضاعفة للتغلب على هذه المشكلة!

الافتقار إلى بيانات عالية الجودة

في كثير من الأحيان، تُستخدَم نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية لإنتاج بيانات تركيبية لحالات استخدام مختلفة. ومع ذلك، في حين تُنشَأ مجموعات كبيرة من البيانات على مستوى العالم كل يوم، لا يمكن استخدام البيانات جميعها لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. لكن النماذج التوليدية تستلزم بيانات عالية الجودة وغير متحيزة لكي تعمل. هذا بالإضافة إلى أن بعض النطاقات لا تحتوي على بيانات كافية لتدريب النموذج. على سبيل المثال، يوجد عدد قليل من الأصول ثلاثية الأبعاد، كما أن تطويرها مكلف، وسوف تتطلب مثل هذه المجالات موارد كبيرة لكي تتطور وتنضج.

تراخيص البيانات

مما يزيد من تفاقم مشكلة نقص البيانات عالية الجودة، أن كثرة من المنظمات تكافح من أجل الحصول على ترخيص تجاري لاستخدام مجموعات البيانات الحالية، أو لبناء مجموعات بيانات مخصصة لتدريب النماذج التوليدية. هذه عملية مهمة للغاية ومفتاح لتجنب مشكلات انتهاك الملكية الفكرية مستقبلًا.

تهدف عدة شركات كبيرة للذكاء الاصطناعي مثل «إنفيديا» (NVIDIA)، و«كوهير» (Cohere)، و«ميكروسوفت» إلى دعم النمو المستمر وتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية عبر الخدمات والأدوات للمساعدة في حل هذه المشكلات، بحيث تتخلص هذه المنتجات والمنصات من تعقيدات إعداد النماذج وتشغيلها على نطاق واسع.

أخيرًا، ثمة مقولات دالة تعكس مدى أهمية وخطورة اللحظة الراهنة في مسيرة تطور الذكاء الاصطناعي، ننتقي منها ما يلي:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

«إن تطوير الذكاء الاصطناعي الكامل يمكن أن يعني نهاية الجنس البشري، وسوف ينطلق من تلقاء نفسه، ويعيد تصميم نفسه بمعدل متزايد باستمرار، البشر، المقيدون بالتطور البيولوجي البطيء، لا يمكنهم المنافسة، وسيُستَبدلون»! (ستيفن هوكينج Stephen Hawking).

«يُطلق بعض الناس على هذه التكنولوجيا اسم الذكاء الاصطناعي، لكن الحقيقة أن هذه التكنولوجيا ستعززنا، لذا بدلًا من الذكاء الاصطناعي، أعتقد أننا سنعزز ذكاءنا»! (جيني روميتي Ginni Rometty).

«قبل أن نعمل على الذكاء الاصطناعي، لماذا لا نفعل شيئًا حيال الغباء الطبيعي؟» (ستيف بولياك Steve Polyak).

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة