مقالات

الجبرتي والباشا .. الجزء الأخير

الحقيقة والتزييف

ذات مرة ﺳﺌﻞ ﺍﻟﻤﺆﺭﺥ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰي ‏”أﺭﻧﻮﻟﺪ ﺗﻮينبي‏”: “ﻣﺎ ﺭﺃﻳﻚ ﻓﻲ ﻣﺼﺪﺍﻗﻴﺔ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ؟”، ﻓﻘﺎﻝ: “ﺣﺪﺛﺖ ﻣﺸﺎﺟﺮﺓ ﺃﻣﺎﻡ بيتي، ﻭﺑﻌﺪ خمس ﺳﺎﻋﺎﺕ ﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻴﺮﺍﻥ بست ﺭﻭﺍﻳﺎﺕ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻓﻤﺎ ﺑﺎﻟﻚ ﺑﺄﺣﺪﺍﺙ ﺟﺮﺕ ﻣﻨﺬ مئاﺕ وآلاف ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ؟”.

الحقيقة أن السر ليس في قدم الحدث بل في الظروف التي تحكم كتابة التاريخ، فمن المؤكد أن الكتابة في عصور الديكتاتورية تختلف عن الكتابة في عصور الحرية، لأن الحاكم المستبد لن يسمح لأحد أن يكتب عن عهده بالسوء، وغالبًا فإن من يفعل سيسجن أو يقتل، ولك أن تتخيل كُتّاب التاريخ المقربين من الباشا محمد علي كيف سيكتبون عنه؟ وماذا سيقولون؟ سيقولون بالطبع كل خير، أما الكاتب المخلص صاحب الرسالة والضمير فلن تُترك له الفرصة ليكتب من الأساس، وسيُضيَّق عليه لدرجة الحبس والحرمان بل وقتل أولاده كما فعل محمد علي مع الجبرتي.

لقد حرض محمد علي الكُتّاب الموالين له بتسفيه كتاب الجبرتي وتخوينه، وأطاع كُتّاب الوالي طاغيتهم، فهذا خليل الرجبي يؤلف كتابًا بعنوان: تاريخ الوزير محمد علي باشا، يشيد فيه بالباشا وأعماله، ويرد على كتاب الجبرتي ويسفهه، وقد حذا بقية كتاب الوالي حذوه.

كان من الطبيعي في ظل هذا القهر والتضييق أن يدفع الجبرتي ثمن إعلان رأيه في محمد علي، وتدوينه للأحداث الحاصلة في عهده بأمانة ومن دون خوف من لومة لائم، فقد عرّض نفسه وأسرته لانتقام المستبد، وجلب الشر على نفسه وعلى أهل بيته، فقتل جنود الباشا ابنه خليل في شبرا بعد صلاة الفجر وبأمر مباشر من محمد بك الدفتردار صهر محمد علي، ولم يكتف الجنود بذلك بل ربطوه برجل حماره وتركوا جسده ليتفرج عليه الناس في الطريق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقد فقد الجبرتي بصره حزنًا على ابنه وقرة عينه، فترك الكتابة والتأليف بسبب فقدان البصر وبسبب الحزن، وبقي حبيسًا في داره إلى أن مات كمدًا، فقام رجال الباشا بإحراق منزله بالصنادقية ومكتبته العامرة بالكتب القيمة، خشية أن يكون فيهما ما يفضح الباشا وحكمه.

لهذا أحجم المؤرخون الحقيقيون بصفة عامة في تلك الفترة عن كتابة تاريخ محمد علي حتى لا يتعرضوا لنفس المصير، وحظر محمد علي على الكُتّاب أن يكتبوا التاريخ كما هو أو بالطريقة الصريحة الخالية من النفاق والتزيين والتجميل.

للدكتور خالد فهمي كتاب شهير: “كل رجال الباشا”، الذي كان لصدروه صدى كبير وكان السبب الوحيد لشهرة كاتبه، ولا عجب، فقد استغرق في كتابته عشر سنوات وهو رسالته للدكتوراة، كتبها بالإنجليزية وعنه نقلها للعربية الأستاذ شريف يونس، في هذا الكتاب يحاول المؤلف إظهار حقيقة محمد علي باشا مؤسس الدولة العلمانية العسكرية في مصر، الذي يعتبره كثيرون نموذجًا للحاكم الناجح ويستخلصون من سيرته العبر والدروس.

جاء تأريخ الكتاب لجيش الباشا في قالب روائي من أحد جنود الجيش، فالكتاب رواية ورؤية تاريخية جديدة لجيش محمد علي وحكمه، تبين أن الجيش أُنشِئ بإذلال واستعباد الشعب المصري، كما تكشف أن تاريخ هذا الجيش ليس كله انتصارات كما صُوِّر الناس، فقد شهد هزائم كبيرة وخسائر فادحة، وقد انهار بعد ذلك أمام القوى الغربية، وهذه المرحلة التاريخية أساسية في فهم طبيعة مصر والشعب المصري حتى الآن.

وقد بدأ محمد علي خطته في تجنيد الشعب بمذبحة المماليك الرهيبة ليقضي على الكيانات العسكرية القائمة، فقتل المئات من قادتهم واجتاح جنوده بيوت المماليك في القاهرة، فنهبوها واغتصبوا نساءها وقتلوا ألف أمير وجندي مملوكي، وطارد ابنه إبراهيم الفارين منهم إلى الصعيد فقتل المئات منهم، ثم تخلص حتى من الجنود الألبان أنفسهم الذين نفذوا له هذه المذابح، بأن أرسلهم إلى حتفهم في صحراء الجزيرة العربية لمقاتلة الوهابيين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يعتقد الدكتور خالد فهمي أن المشكلة الأساسية في التاريخ المكتوب لمحمد علي أنه يمجد الحاكم ويهمل الشعب، وينكر حقه في المساهمة في صياغة مستقبله، ويروج لمعنى أن الحاكم كان سابقًا لعصره ولهذا لم يحبه الشعب، وهي مزاعم فيها كثير من النفاق وتروق للحاكم وللحكام المستبدين بوجه عام، وبغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك مع ما جاء بكتاب “كل رجال الباشا”، ستستفيد منه وسيظهر لك وجهات نظر مختلفة في حكم محمد علي.

هو كتاب كبير لا يسعنا إحاطتك هنا بكل ما جاء فيه، لكن يمكننا أن نشير إلى أهم الأفكار التي تضمنها، من ذلك أن آراء محمد علي في الشعب المصري قد زُيِّفت عن عمد عند نقل مذكراته من التركية إلى العربية، فقد كان يصف المصريين فيها بالبهائم، وأنهم لا تناسبهم الحقوق التي يحصل عليها الناس في الغرب، ولا تناسبهم حياة الأمم المتحضرة.

يشير الدكتور خالد فهمي إلى اشتراك عديد من العوامل في تزييف تاريخ محمد علي، أهمها: أن محمد علي تعمد أن يصور نفسه للغرب على أنه الحاكم المتفتح المستنير الذي يحكم شعبًا من الجهلة والمتخلفين، وأنه جاء ليحارب تطرفهم الديني وعداءهم التقليدي للغرب، ولهذا يسعى لإنشاء مصر حديثة مختلفة، فهو الحاكم المستنير الوحيد بين ولاة السلطنة العثمانية الرجعية.

أعجبت هذه الرؤية الأوروبيين الذين اعتادوا النظر إلى المسلمين بدونية وعنصرية فتجاوبوا معه، وكان هو يخطط للتمرد على الدولة العثمانية ويريد الفوز بمساندة الغرب، واستخدم محمد علي مطبعة بولاق التي كانت وقتها “جهاز الإعلام الرسمي للحاكم” في طباعة الكتب التي تحمل مدح الباشا وتتجاهل مؤلفات من يعيبون أسلوبه في الحكم مثل تاريخ الجبرتي، ولقد ساعدته حليفته فرنسا بأن نشرت عنه هذه الصورة التي روج لها.

أيضًا بعض أولاده مثل الملك فؤاد حرص على “صناعة” تاريخ أسرته صناعة إعلامية بامتياز، حتى أنه دفع الرشاوي لمؤرخين أجانب لكتابة تاريخ جده بالطريقة التي أرادها، وعندما تُرجمت هذه الكتب ضلّلت كثيرين بتزييفها للتاريخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقد أدت جهود الملك فؤاد في جمع الوثائق الخاصة بأسرته لأن تحتل هذه الوثائق مكانة خاصة في دار الوثائق، فجذبت الباحثين الذين عجزوا عن الوصول إلى الوثائق الأخرى التي تبرز الجوانب السلبية المقابلة في تاريخ محمد علي، سواء وثائق العثمانيين أو غيرها.

ساعد على ذلك أن هذه الرؤية المزيفة لمحمد علي وجدت قبولًا عند كثير من المصريين، فالمؤرخون والوطنيون أرادوا أن يكون محمد علي صانع النهضة والتحديث نكاية لدعوى الإنجليز أنهم من صنعوا مصر، والقوميون أرادوا أن يكون محمد علي صاحب مشروع يوحد العرب ويقيم لهم دولة وطنية، رفضًا للدولة العثمانية والتدخل الأوروبي في زمن عم فيه التخبط والتشرذم وتشوش الهوية، فكان لا بد من التمسك بنموذج ما يوحد الأمة، أو حتى يعطي هذا الإحساس بوجود طريق عربي واضح أمامها بعيدًا عن التدخل الأجنبي.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة