إصداراتمقالات

تأسيس الجامعة

أنا أتكلم اليوم من واقع خبرتي القصيرة وملاحظاتي وشغفي وحبي لمنظومة من أرقى المنظومات الإنسانية ألا وهي منظومة الجامعة. وفي الواقع فإن هذا التوصيف “أرقى المنظومات الإنسانية” سيلاقي الكثير والكثير من الاعتراضات في مجتمعنا المصري. فعلى عكس محاولتي المتواضعة في مدح الجامعة فهناك الآلاف من بني وطني قد بلغ بهم حد البغض والتأزم من هذه المنظومة لدرجة تسمح لهم أن يهاجموها بأعنف ما يكون. وبصراحة أنا لا ألومهم، فالفاحص المدقق في أمر مجتمعنا سيقدر بعض هذه المشاعر لأن أسبابها واقعية ولا يمكن أن تجعلك تحت أي ظرف أن تحب هذه المنظومة أو أن تكن لها حتى أقل مقادير الاحترام. ولكننا اليوم لن نسعى لأن نهتف بمع أو ضد لأن القضية محسومة لمن يريد أن يرى الواقع لحقيقته. بل سنحاول أن نهتف مع الهتاف الخافت والصوت الضعيف الذي رفض أن يتوقف عند تشخيص الخطأ بل يسعى بعد ذلك لتشخيص ما ينبغي أن تكون عليه الجامعة ثم أيضا ينطلق نحو التنفيذ.

وفي التحليل العام لأي منظومة اتفق المجتمع على تأسيسها لتؤدي خدمة معينة فإن هذه المنظومة قد تواجه في تحقيق غايتها الفشل لأسباب جزئية عديدة. ولكن في النهاية فإننا نستطيع أن نقسم كل تلك الأسباب إلى نوعين أساسيين: الإفشال الخارجي والفشل الذاتي. لن تستطيع أن تجد لأسباب الفشل في وجهة نظري تقسيم أعم من ذلك ولكن في كل من القسمين تفصيل يوضح مدى فداحة المؤامرة المحاكة على عقول مصر من ناحية ومن ثم يتضح منها الخطوط العريضة التي ينبغي أن تكون الأساس في أي حركة نهضوية في الجامعة تسعى بالجامعات المصرية نحو استعادة مكانتها التي كانت عليها.

وبصراحة سأبدأ سريعا بتلخيص الأسباب الخارجية “الإفشال” وذلك لإيماني بعدم جدوى سرد تحليل مفصل بالوقائع عنها وذلك لأسباب ستضح من السياق التحليلي. فمن جهة الإفشال فإنه لو سلمنا أن هناك مصانع للأدوات ومصانع للأغذية ومصانع لتنقية الماء ومصانع للكيماويات فإننا يمكن أن نسلم أن الجامعة هي مصنع يتعامل مع مادة خام من نوع خاص وينتج منتج من نوع خاص أيضا، فهي بدورها مصنع للعقول وذلك مجازا من باب التشبيه والتمثيل لتقريب الصورة. وما هو دور العقول في النهضة والاجتماع السياسي؟ إن العقول أو “النخب الفكرية” في كل المجالات هي القوة الدافعة بالمجتمع نحو التغيير. ويجدر الإشارة هنا لأهمية الفرق بين التغيير والتقدم. فالتغيير في حد ذاته لا هو جيد ولا هو سيء.. بل إنه من المغالطات المشهورة التي تنتشر في المجتمع. فالتغيير يقاس بالجهة أو الهدف. وعليه فلما كانت النخب هي القوة المحركة نحو التغيير فإن النخب السيئة ستؤدي حتما لتغيير سيء والعكس بالعكس. ومنه أننا لو أردنا أن نتغير للأحسن يجب علينا أن ننتج اجتماعيا نخبا جيدة على مستوى التغيير المطلوب. وهذا يؤدي بنا إلى أن التغيير الجيد يحتاج للعقول والنخب الجيدة والتي بدورها لن تنتج إلا من “مصانع” عقول جيدة.

وإنه من هذه النتيجة يمكن أن تتلخص كل الأسباب الخارجية التي تأبى على الجامعات المصرية إلا أن تفشل وتفشل وتفشل. فإما لتربص العدو الصهيوني بنا أو بسبب القهر والاستبداد أو لتربص رجال الأعمال الانتهازيين الذين يسعون بقتل الجامعات بأن يسوقوا لنسخ باهتة من جامعات خاصة لم تؤسس إلا على مبدأ مص دم المواطن الكادح الذي يطمح نحو توفير أفضل مستوى ممكن من التعليم لأولاده. فنجد تلك الجامعات تستدرج هؤلاء الناس بالتضليل والوعود الواهية وبالشهادات الملونة المزخرفة المعتمدة من أرقى الجامعات على مستوى العالم. فيفاجأ الناس بالواقع بعد فوات الأوان ليجدوا أنهم ألقوا بأبنائهم فيما هو ليس إلا نوادي اجتماعية فارهة باهظة التكاليف لا تهتم لا بالتعليم ولا بالتأسيس لكوادر إنسانية حقيقية ولا حتى تعطي شهادات ذات قيمة. بل إن الشهادات التي تمنحها لا تتعدي قيمتها قيمة الحبر الذي كتبت به. وأما عن وعود الاعتماد العالمي والموثق للشهادات فلم تكن إلا كنداء بائع السوق على بضاعته ليزينها في عين الشاري. فلم تتعدَ العلاقة بتلك الجامعات الوهمية بالجامعات العالمية سوى عقد بعض الاجتماعات مع بعض تلك الجامعات مع عدم تفويت فرصة أخذ بعض الصور التذكارية والتي ستلعب دور الطعم لاصطياد الزبائن. أما عن فريق العمل فبسهولة وعن طريق استغلال هزالة رواتب أساتذة الجامعة فإن إغراء هؤلاء الأساتذة بالمبالغ الضخمة والمكاتب المكيفة كفيل بتسخير قوة عمل كوادر هيئة التدريس بالجامعات الوطنية لا من أجل بناء جامعاتهم التي تخرجوا منها بل لبناء هذه المؤسسات الممسوخة والتي لن تؤدي في النهاية إلا إلى تدمير جامعات الحكومة تماما. ويتحول بهذا كل التعليم العالي لقطاع خاص فلن يتعلم إلا من يستطيع أن يدفع وهذا ليضمن أن من يتعلم ويصل للمراكز المرموقة سيكون من نفس الطبقة التي تقهر الطبقة الفقيرة اجتماعيا ومن الطبيعي أن ولاءه سيكون لطبقته. وبهذا تضمن الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية استقرار الحال في صالحهم ولو بصورة جزئية. وأما عن عدم جدوى مناقشة أسباب الإفشال، فذلك لكونها خارج إطار التغيير بالتوجه الفردي أو الجماعي التقليدي بل يحتاج لتقرير مصير من مجتمع واعٍ حقيقي والذي يتحقق فقط إذا تواجدت النخبة الجيدة لتقوده والتي لن تنتجها إلا الجامعات الجيدة فنعود حيث كنا والدور مستمر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما داخليا وهو الجزء الأكثر فداحة إنسانيا فيكفي أن نعلم أن طرق التعليم وأنظمة التدريس وتنظيم الجامعة هي الطريقة المثلى لتحقيق نتيجة واحدة “كره طلبة العلم للعلم”. لقد كان المفتاح دائما نحو خلق جيل واعِ مفكر هو تنسيق عقله بصورة تسمح له أن يربط بين العلوم والفنون في منظومة فكرية متكاملة ومنتجة. هذا التنسيق لا يتحقق إلا من خلال ربط عقل الطالب بالعلم لا عن طريق التهديد والوعيد بل عن طريق التشويق والتبسيط. طبعا يجب أن يكون النظام حازما وصارما عند التقصير ولكن لا ينبغي تحت أي ظرف أن تكون هذه السمة هي الأساسية للنظام التعليمي، بل تستخدم عند الضرورة فقط وبمقدار محسوب. قد أتكلم من خلال خبرتي والتي سبق واعترفت أنها محدودة وقد تكون غير صحيحة ولكني أستطيع أن أذكر فقط أنني بغض النظر عن بعض العينات هنا وهناك والتي لا تعطي أي استجابة لأي طريقة أو أسلوب في التعليم أن كل العينات الأخرى والتي كان أداؤها العلمي متواضعا لم تكن تعاني من نقص في القدرات العقلية على قدر معاناتها من مشاكل نفسية مع منظومة التعليم نفسها. ويكفي هنا أن أقول أن هؤلاء الطلبة قد أظهروا تحسنا واضحا حالما توفر لديهم التشجيع النفسي وتبسيط المسائل العلمية لهم بالإفهام والتحليل لا بالحفظ والتلقين.

إن ما أتحدث عنه هنا ليس اختراعا أو اكتشافا بل هو واقع الإنسان. فالإنسان كائن فضولي لكن عليك أن تشد انتباهه ثم عليك أن تحافظ وتنمي هذا المستوى من التنبه خلال رحلة التعليم. فعندما نحاول أن نقحم ونزرع المعلومة في عقول الطلاب دون ربط متسق مع منظومة المعلومات السابقة لدية فالطبيعي أنه سيلفظها وأن أثرها لن يكون دائمي فينسى المعلومة بمجرد أن يخرج من الامتحان. إنه مثل مزج الزيت بالماء. فبدلا من ذلك على المعلم أن يكون للطالب كالعصفورة لصغارها تهضم لهم الطعام ثم تطعمه لهم بطريقة أسهل في الهضم ليزداد قدر الاستفادة. فالسؤال هو لماذا ينسى كل أستاذ ومدرس ومعيد بالجامعة أنه كان طالبا في يوم من الأيام أنه مازال يخطئ ويصيب ويفهم ويجهل وأن هناك من هو أعلم منه في الخارج والداخل؟

القضية الثانية التي يجدر الإشارة إليها هو ضرب المثل الأعلى وتكوين صورة القدوة الحقيقية في عين الطلاب. فالأستاذ طالما أنه يريد أن يكون إلها (مع تحفظي على هذه الرؤية لأسباب واضحة لكن هذا هو الواقع) فعليه على الأقل أن يتصرف وفق هذا النحو. لكن للأسف فإن البعض يفضل أن يتشبه بآلهة الأوليمب التي تسرق وتقتل وتنهب وتغتصب الحقوق ثم تطلب التقديس والاحترام. الأستاذ في تمثيل أرقى هو شمعة عليه أن يضيء ليعرف الطالب قيمة النور والتضحية وهو للأسف النموذج الذي تفتقده الجامعات في كثير إن لم يكن أغلب الأحيان. علينا أن ننسى حالة التأليه الفارغة الكاذبة التي نعيشها كأعضاء لهيئة التدريس. علينا أن نعايش الطالب في رحلته نحو التعليم وأن نكون أقرب إليه عقلا وقلبا من كل الأطراف الأخرى التي تغريه وتستدرجه لتخرجه من سبيل طلب العلم.

طبعا سيغالط البعض ويقول حتى لو فعلنا هذا فإن هذا لن يمنع الفشل في حالات كثيرة. أولا ليس الهدف من إعادة هيكلة شخصية أستاذ الجامعة أن نحصل على نتيجة معينة أو نحقق رقما معينا، فليس هذا هو الهدف المباشر. إن التزامنا بتقديم القدوة الحسنة للطالب مع الرعاية العلمية والنفسية الصحيحة ينبع من كون هذا هو ذاتيا في كون الأستاذ أستاذا، فكل من يريد أن يحمل هذا اللقب عليه أن يتحمل المسؤولية التي تستتبع هذا اللقب وإلا استبدلنا الله بغيرنا ممن هم أكفأ منا في تلبية نداء الواجب الأكاديمي. أما النقطة الثانية في الرد فهي فلسفية بعض الشيء. فإن العلة الإنسانية علة ناقصة وعليه فالإنسان وحده لا يستطيع أن يوفر كل الشروط الضرورية والكافية لتحقق النتيجة. لكن في كل الأحوال عليه أن يوفر العلة حتى ولو كانت جزئية طالما أن النتيجة المرجوة هي نتيجة مطلوبة عقلا في ميزان الخير الأخلاقي. بمعنى آخر قد لا يكون التزامنا بالرسالة الأكاديمية أخلاقيا وعلميا سببا كافيا لإنتاج النخبة الجيدة التي تكلمنا عنها. ولكن يمكننا أن نختار في كل الأحوال ألا نكون نحن سببا من أسباب تعطيل إفراز هذه النخبة، فتكون العلل في أشياء أخرى وعلى عاتق منظومات اجتماعية أخرى أو على الأقل نكون قد أنقصنا أسباب عرقلة تقدمنا سببا واحدا. وفي مثال أبسط إن كنت لا تستطيع إخماد النار فعلى الأقل لا تنفخ فيها. وفي النهاية أترككم مع الآية الحكيمة والتي أعرضها كعرض إخباري بعض أن قدمت – في وجهة نظري – للقضية التحليل العقلي الملائم. فيقول الله في كتابه العزيز “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى”. فحتى شرعا لا يعتمد تشخيصنا للواجب بالنتيجة بل بالتأسيس السليم للسعي والعمل أما النتيجة فلا نحاسب عليها لأننا كما قلنا علة ناقصة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة