إصداراتمقالات

بنو فرعون وبنو إسرائيل

المشهد مخيف ومهيب. الأنظار شاخصة والأصوات خافتة والأنفاس ساكنة والكل ينصت ويستمع إلى هذه المحاورة الساخنة التي تجري بين فرعون الأرض والسماء ابن الآلهة ورئيس البلاد وبين هذا العبد الإسرائيلي البسيط. هذا المجرم الهارب الذي فر من البلاد خائفا بعدما قتل واحدا من أبناء شعب فرعون العظيم فخرج ضعيفا تائها طريدا ليعود تارة أخرى. ولكن الذي دعى الناس لهذا الاندهاش والتسمر هو أن هذا العبد والمجرم الهارب لم يعد ليطلب الغفران والعفو وأن تختم له “الفيزا” على “الباسبور” ليستطيع أن يعيش في إمبراطورية الأرض والسماء العظيمة في أمريكة زمانه ونيويورك عصره ليستظل بظلها ويتمتع بنعيمها ولعله يجد عقد عمل عند تاجر أو مزارع ثري من أبناء الحاشية فيستعين بالأجر على معيشته ومصاريف عائلته. لا إن هذا العبد لم يأتِ لفرعون العظيم ليستعطفه أو أي شيء من هذا القبيل. العجيب أنه جاء ناصحا وواعظا للفرعون العظيم ولشعب مصر. لقد جاء ليعلم لا ليتعلم وجاء ليفيد الناس لا ليستفيد..جاء ليقول أنه رسول الله إلى مصر وبني إسرائيل .

و يبدو أن أول ما جال بخاطر الناس الذين شهدوا هذا اللقاء هو السخرية والنقد الصارخ لهذه الجرأة الحمقاء وكأنهم يقولون “يا أحمق أيها العبد الآبق، ألا تحمد فرعون إلهك على أنه لم يقتلك أو يسجنك فور وصولك وتركك لتمثل أمام عرشه ؟ أليس أولى أن تنتهز الفرصة فتترجى منه العفو والرحمة والغفران من ابن الآلهة وأن يأذن لك لتبدأ حياة الرفاهية وصفحة بيضاء في إمبراطوريتنا العظيمة؟ من أنت حتى تظن نفسك رسولا من السماء لفرعون ابن الآلهة؟ يالك من عبد أحمق..حتما إن ما تفعله سيؤدي لهلاكك ومقتلك فورا”.

لا يخفى علينا أننا بعقليتنا الحالية عقلية المادية والعدمية؛ عقلية “ماما أمريكا” لو كنا نشهد هذا الموقف لفكر كثيرٌ منا على هذا النحو إلا من رحم ربي. وقد وجب هنا أن نتساءل بعض التساؤلات عن سبب هذا التصرف وعن قبحه من حسنه وعما يترتب عليه من نتائج في كل حالة.

القضية هنا هي قضية رفض الحق. ولا يجوز هنا الاستهانة بما حدث. فينبغي للمحقق المنصف أن يعلم أن ما حدث بعد هذه النقطة من رفض للحق وتهاون به هو ما أدى لهلاك الحضارة المصرية بكل ماتحمله من إنجازات نتيجة لغضب الله علي هؤلاء القوم. فلم يخسر فرعون فقط ولا هامان فقط بل خسر كل بني فرعون . والأسوأ أن الخسارة كانت ستكون أهون لو كانت دنيوية فقط ولكن ما زاد من حجم الكارثة أن الخسارة كان لها شق أخروي عظيم أيضا فكان دمار شامل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

السبب الأول في رفض الحق عند المعاندين: هو الخطأ في تشخيص الحق. فآفة المجتمع وعدوها الأول هو الجهل. والجهل إما بسيط وهو الجهل بالحق أو مركب وهو أخذ الباطل مأخذ الحق. وعلاج المركب أصعب من البسيط. وسبب الجهل إما القصورعن العلم وعلاجه اللجوء والبحث عن المعلم والمعلومة قدر الإمكان لتحصيلها. أو التقصير عن العلم. والتقصير يكون إما بالكسل عن البحث في العلم أو الاستخدام الخاطئ لقوة الإنسان العاقلة في تحصيل العلم. والأسلوب الصحيح في تحصيل العلم هو الاستدلال على الحق بالتصور الصحيح ثم بالدليل البرهاني العقلي اليقيني على صحة هذا التصور. ولما كان المجتمع مليئًا بشتى صور التشخيص الخاطئ للحق إما بالجهل البسيط أو المركب وسواءً كان جهل قصور أو تقصير إما كسلا أو خللا في التفكير سواءً عند التصور أو البرهنة أو كليهما. وجب على العقول المستنيرة في المجتمع أن تؤدي دورها. فتبدأ بالتوعية والتعليم والتذكير بطرق التفكير والتعلم الصحيحة. وقد أدى جهل المجتمع الفرعوني شعبا وحكاما واختلال الرؤية الكونية لديه في ضبابية رؤيته للحق فلم يعرف الحق حين رآه متجسدا في دعوة النبي العظيم موسى عليه السلام إلى التوحيد وترك الشرك. والجهل والفقر كانا ولازالا سلاح كل فرعون مستبد في التنكيل بقومه والسيطرة عليهم في كل عصر.

السبب الثاني العنصرية والطبقية الاجتماعية . فلقد تفشى في المجتمع الفرعوني -مثل غالبية مجتمعات حاضرنا الإنساني- الأمراض الاجتماعية السيئة التي تمنع المجتمع من تصديق الحق والإيمان به حتى ولو كان تفكيرها سليما غير مختل. يظهر هذا في النظرة الدونية والطبقية التي تبناها الفرعون والمجتمع الفرعوني لبني إسرائيل.
فبنو إسرائيل خدم وعبيد وحواشي يخدمون المصريين وإن أقل مصري شأنا وعزة هو أقيم في العرف الفرعوني من أعظم إسرائيلي. وكأن لسان حال فرعون وملئِه هو “حتى وإن كان ما تدعيه يا موسى حق وحقيقة فكيف لنا نحن سادة الأرض وبنو فرعون أن نؤمن برسالة جاءت من إسرائيلي عبد ربيناه في قصورنا وآويناه عندنا تعطفا وكرما بدلا من قتله مثل بقية أبناء بني إسرائيل “وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم”[1]. فقال فرعون لموسى عليه السلام ليذكره بمكانه وقدره الحقيقي في نظرته الطبقية” قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين. وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين”[2]. فكانت تلك الطبقية والعنصرية من أهم أسباب رفض فرعون وقومه للحق. وكأنهم يعاتبون الله ليقولوا إليه ألم تجد من هو أعظم شأنا من هذا العبد الإسرائيلي الضعيف لترسله لنا بالحق. ونجد من سخرية القدر أن هذا المرض توارثته بنو إسرائيل أيضا بعد التيه لما عين الله عليهم طالوت ملكا فرفضوا ورفضوا الحق بحجة أنهم أكثر منه سعة في المال. يتكرر مرة أخرى نموذج الطبقية والعنصرية التي تؤدي بالمجتمع للهلاك والتخلف.

وهنا نعكس هذا الموقف على مجتمعنا. فكثيرٌ منا إلا من رحم الله لا يشخص المعلومة من حيث الحق والباطل لذاتها ولكن لحاملها من حيث عنصره وطبقته. نحن للأسف أيضا مصابون بمرض التعصب العنصري والطبقي. فإذا أتانا العلم نصنفه فهذا علم أمريكي أو صهيوني أو سعودي أو ليبرالي أو ديمقراطي فنقبله دون تشكيك أو تنقيح وهذا علم روسي أو فلسطيني أو ثوري أو اشتراكي أو شيوعي أو إسلامي فنلفظه ونمقطه ونحارب حامله ونقاتله دون أن ننظر للمحتوى أو نحلله. كم هو خاسر هذا الذي يقيم الهدية بغلافها لا بقلبها وذاتها! فكم من ذهب في التراب يقبع وكم من خبث في الشمس يلمع. ولكن يبقى الذهب ذهب والخبث خبث.

السبب الثالث والأخير يظهر من الحكمة التي تقول “حب الدنيا رأس كل خطيئة”. فعلى فرض أن بني فرعون تخلصوا من المشكلة الأولى وأصلحوا تفكيرهم ورؤيتهم الكونية وعلى فرض أنهم تخلصوا من عقدة العنصرية والطبقية وقبلوا الحق لذاته ولم يهتموا بمن يحمله. فهل كان بنو فرعون على استعداد للخضوع لأوامر موسى عليه السلام. لقد كان اقتصاد المجتمع الفرعوني يعتمد على تسخير بني إسرائيل كعبيد سخرة فيوفرون في تكاليف الزراعة والإنتاج. ولكن الشريعة الإلهية تحرم استعباد الناس لغير الله. فإن الله قد خلقنا أحرارا فلا نعبد أحدا إلا هو وحده. وعليه فلقد كان في اتباع الحق مشقة على بني فرعون في الاستغناء عن ركن من أركان الاقتصاد والثروة القومية لديهم.

وهنا نجد الإنسان يتنازع بين حبه للخير وحبه لله. فيقول سليمان الحكيم عليه السلام حينما أنساه الجاه والسلطان ذكر الله عز وجل فقال معاتبا لنفسه “فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب”[3]. ونرى من هذا الموقف أن السلوك السليم للإنسان في أي موقف هو تقديم طاعة الله واتباع الحق على كل شهوات الدنيا ومغرياتها. ولقد كان عشق الفرعونيين الشديد للمال والثروة والدنيا مانعا كبيرا يمنعهم حتى مع إدراكهم السليم للحق أن يتبعوه. وقد تكرر هذا النموذج في مواقف كثيرة في التاريخ وفي عصرنا الحالي. وفي المدينة المنورة قال بعض المنافقين “يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”[4] فيرد الله عليهم مصححا ومعاتبا “و لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون”[4]. ونخلص هنا أن الإنسان عندما يعود نفسه أن غايته في الدنيا هي الدنيا ذاتها فإنه حينما يواجه بالامتحان الذي يجب أن يتخير فيه إما الدنيا وإما الله سيجد نفسه معرضا بشدة للفشل في هذا الامتحان مثلما فشل بنو فرعون فهلكوا. والنتيجة محتومة فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين سواءً في الدنيا أو الآخرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نحن في تحليلنا حاولنا أن نبرز الأسباب الهامة والعيوب النفسية والأخلاقية التي تؤدي لمثل هذا الموقف وهذه الخسارة. وهدفنا في هذه المناقشة هو التعلم وتحذير وتزكية النفس من تلك العيوب حتى نتجنب هذه النهاية المدمرة في الدنيا والآخرة. ولا يجب أن نزكي أنفسنا على أحد فليس حال بني فرعون وبني إسرائيل عنا ببعيد وقد حذرنا الله من أن نأمن مكره ونعتقد أننا شعب الله المختار وأننا وصلنا لذروة الإيمان فقال لنا سبحانه “أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون”[5].

[1]: سورة البقرة (49) [2]: سورة الشعراء (18 و19) [3]:سورة ص (32) [4]: سورة المنافقون (8)
اضغط على الاعلان لو أعجبك
[5]: سورة الأعراف (99)

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة